تكتسب ذكرى رحيل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان في 19 رمضان، قبل 21 عاماً، معنى يفيض عن مُجرّد الاحتفاء الوطني في الإمارات برمز التأسيس وأبوّته الحضارية لواحدةٍ من أنجح التجارب في المنطقة. فهذا الإرث، في مرونته السياسية، وفي تسامحه الحضاري والديني، وفي إنسانيّته التي لا يلوّثها التعصّب أو الانغلاق، يشكّل استعادةً ضروريّةً لسياسةٍ عربيّةٍ تؤسِّس لأفقٍ يتجاوز الانقسامات المذهبية والطائفية والجهوية في منطقة يجرف حيّزاً من دولها، طوفان الفكّ وإعادة التركيب، من اليمن والسودان إلى ليبيا، ومن سوريا الى لبنان وفلسطين.
ليست “عقيدة زايد” (Zayed Doctrine)، كمقاربة ثقافية وإنسانية في مشروعات بناء الدول، مجرّد سرديّة نجاح سياسي أو اقتصادي، بل بنيةٌ حضاريةٌ متكاملة، يتشابك فيها بناءُ الدولة ببناء الإنسان، والتنمية بالقيم، لتطرح اليوم نفسها نموذجاً ضروريّاً، وربّما يكون ملحّاً، أمام المجتمعات العربية التي تكابد التمزّق في بنيتها الوطنية.
كرّس الشيخ زايد (1918-2004)، إطاراً فريداً للقيادة والحكم يشتمل على مبادئ رئيسية، هي الوحدة والدبلوماسية والتنمية الشاملة والعمل الإنساني والتسامح والاهتمام بالبيئة، التي لا تزال تشكّل هويّة دولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة، وتعزّز مكانتها العالميّة.
توحيد الإمارات نموذجٌ نادر
قدّم نجاحه في توحيد الإمارات السبع سلميّاً عام 1971 ضمن كيانٍ فدراليّ، نموذجاً عربيّاً نادراً في وسط ثقافةٍ سياسيةٍ مضطربة طالما تغذّت على أوهام الوحدة القسريّة والأمّة الخالدة الواحدة. على النقيض من ذلك، كان منطق زايد في بناء دولته متحرّراً من الشعارات الأيديولوجيّة الكبرى، وقائماً على واقعيّةٍ سياسيةٍ واضحة، استندت إلى إجماعٍ طوعيّ، ودبلوماسيّةٍ هادئةٍ، وبراغماتيّةٍ إنسانيّةٍ عميقة.
لا بدّ من العودة إلى مبادئ “عقيدة زايد” نفسها بوصفها استعادةً للمنطق الذي عاكس به الشيخ زايد مناخ عصره ومحيطه
هكذا نجح في تحويل إماراتٍ ذات استقلاليّةٍ تاريخيّةٍ وتنافسيّةٍ تقليدية، إلى اتّحادٍ فدراليٍّ متماسك، مرتكِزاً على حسن التدبير والعدل في توزيع ثروات النفط التي تمتلكها أبوظبي، وتوجيهها نحو تحقيق تنمية وطنية شاملة ومتوازنة، رسّخت الثقة المتبادلة والترابط العضوي بين الإمارات السبع، وعزّزت منطق الشراكة والتنمية والعيش الواحد فوق منطق الشعارات وصراعات الهيمنة والزعامة.
أسّست عقيدته لثقافة استثمار العائد النفطي في مشاريع تحقيق رخاء المواطن الإماراتي وتنمية الدولة الناشئة، من خلال تطوير البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحّية، ليجعل من الاتّحاد الأسريّ والقبليّ الوليد، دولة حديثة متماسكة، وهويّة وطنية عابرة للولاءات الفرعية التقليدية.
كان في صميم “عقيدة زايد” تعميم الرخاء ما أمكن، خارج حدود الدولة، وتقاسم الرزق مع المحتاجين، ابتداءً بالجوار المباشر وامتداداً نحو الأبعد. كان هذا النهج، ولم يزَل، تجسيداً واعياً لقناعةٍ ثقافية وإنسانيّة راسخة بأنّ الاستقرار والتنمية الحقيقيَّين لا يمكن أن يتحقّقا في عزلةٍ عن محيطهما الإنساني والجغرافي.
هو المسار الذي تترجمه اليوم بوضوحٍ استراتيجية المساعدات الإنسانية الإماراتيّة الواسعة، عبر مؤسّساتٍ مثل صندوق أبوظبي للتنمية وجمعية الهلال الأحمر الإماراتيّ. وليس مفاجئاً، بهذا المعنى، أن تتصدّر الإمارات اليوم، بحسب مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، قائمة الدول الأكثر دعماً لسكّان قطاع غزّة منذ اندلاع الحرب في تشرين الأوّل 2023، بمساعداتٍ قاربت قيمتها مليار دولار ممثّلةً 42% من إجمالي المساعدات المقدَّمة.
دبلوماسيّة عدم التّدخّل
الدبلوماسية وعدم التدخّل في شؤون الآخرين، شكّلا حجر الزاوية في سياسة الإمارات الخارجية كما أرساها زايد، بدافع تحقيق السلام والاستقرار عبر الحوار، وتجنّب المقاربات العدوانية. وهو ما جعل من الإمارات وسيطاً إقليميّاً ودوليّاً موثوقاً وشريكاً في حماية السلام الدولي، عبر مشاركات متميّزة في مهامّ حفظ السلام في لبنان والصومال وكوسوفو.
الدبلوماسية وعدم التدخّل في شؤون الآخرين، شكّلا حجر الزاوية في سياسة الإمارات الخارجية كما أرساها زايد
في هذا السياق تندرج مبادرة الإمارات اليوم للتوسّط بين إيران والولايات المتحدة، وقبلها الوساطات المتكرّرة بين روسيا وأوكرانيا. ولا ينتقص من هذا النهج الراسخ، اضطرار الإمارات اليوم، في سياقٍ إقليميٍّ مختلف يشهد انهياراً للدول وتصاعد خطر الجماعات المتطرّفة والإرهابية، إلى تدخّل إمارات “زايد” الاستباقي لمنع توسّع النزاعات، أو تمدّد الأيديولوجيّات التخريبية للإسلام السياسي.
في ظلّ ما يمزّق دول المنطقة ومجتمعاتها، من حروب الهويّات وانشطاراتها المذهبية والطائفية والجهويّة، وتحوُّل الجماعات فيها إلى كيانات متناحرة، لا بدّ من العودة إلى مبادئ “عقيدة زايد” نفسها بوصفها استعادةً للمنطق الذي عاكس به الشيخ زايد مناخ عصره ومحيطه، حين رأى في التنوّع الديني والثقافي قاعدةً صلبةً تُبنى عليها الدولة وتترسّخ فيها هويّتها الجامعة.
هذا بالضبط ما وفّرت له التجربة الإماراتية، بنصوصها التشريعية وروحيّتها السياسية، أساساتٍ ملموسةً ومؤسّسيّة، إذ أتاحت لمكوّناتها الدينية والمذهبية أن تمارس حرّياتها وشعائرها بكرامة، معتبرةً أنّ العيش الواحد في ظلّ الدولة والقانون ليس خياراً أخلاقيّاً وحسب، بل هو ضرورةٌ استراتيجيّةٌ تستقيم بها حياة المجتمع وتحفظ له وحدته وقابليّته للاستقرار.
تقدّم الإمارات، من وراء تجربة الشيخ زايد، مثالاً ملموساً لما يمكن أن يكون عليه الاجتماع العربي من تجاوزٍ للأزمات الطاحنة التي تعيد اليوم تركيب الجماعات في بلادٍ شتّى، على نحوٍ عنيف ومأسويّ.
تجسّد هذا النهج بشكل ملموس في المبادرات الإماراتية المعاصرة مثل “وثيقة الأخوّة الإنسانية” التي وُقّعت في أبوظبي عام 2019 بين شيخ الأزهر والبابا فرنسيس، وترجم “عقيدة زايد” والتزامها التامّ بفكرة الالتقاء الحضاري بين الأديان لا بصراعاتها وحروبها، لتكون أساساً لإعادة السكينة إلى الدين، كلّ دين.
كان في صميم “عقيدة زايد” تعميم الرخاء ما أمكن، خارج حدود الدولة، وتقاسم الرزق مع المحتاجين، ابتداءً بالجوار المباشر وامتداداً نحو الأبعد
البيت الإبراهيميّ
لئن مثّلت “عقيدة زايد” مساراً سياسيّاً وإنسانياً حديثاً في التجارب العربية المعاصرة، إلّا أنّها، في حقيقتها، تستند إلى، وتبني على، إرثٍ عريقٍ من الفكر السياسي العربي والإسلامي، يَصلُها بأصولٍ تاريخيّةٍ عميقةٍ وخصبة. فهي تجمع، على سبيل المثال لا الحصر، بين حكمة الحكم الراشديّ وتقاليد الشورى والعدل في التجربة الإسلامية الأولى، وبين التراث الحضاري للأندلس في تعدّديّته الدينية والثقافية، وانفتاحه الإنساني والعمراني.
تتواصل أيضاً، بوعيٍ ووضوحٍ، مع تيّارات النهضة العربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي جعلت من التنمية والتحديث والتسامح مداخل أساسيّة لاستعادة العرب لمكانتهم الحضارية ودورهم الإنساني.
إقرأ أيضاً: لماذا فرضت الإمارات قيوداً على أميركا؟
في ذكرى رحيله، تُستلهمُ هذه التجربة بما هي عقيدة إنسانيّة وتنموية وتوافقيّة، تعيد الاعتبار إلى قيم السياسة الأخلاقية التي تتّخذ من بناء الإنسان أوّلاً معياراً وهدفاً، وتجعل من التنمية والسلام والتعايش مفاتيح رئيسةً لاستقرار المجتمعات والنهوض بها. وتتضاعف راهنيّتها في ظلّ استفحال التحدّيات الوجوديّة التي تحيط بالمنطقة العربية اليوم، بدءاً بانهيار الدول وتفكّك مجتمعاتها، ووصولاً إلى انفجار الهويّات الوطنية التي باتت تهدّد حاضر ملايين العرب ومستقبلهم معاً.
لمتابعة الكاتب على X: