التّطبيع اللّبنانيّ النّافع مع “الحزب”

تعاود سرديّات التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي الظهور من جديد على المسرح السياسي اللبناني. هي محاولات مستحيلة وغير واقعية. يعتبر مفهوم التطبيع في لبنان مفهوماً ضبابيّاً ومطّاطاً، وغير محدّد المعالم. وهو ما يجعل منه أمراً غير وارد في المنظور القريب.

لذا تبدو سرديّة التطبيع فقاعة غير مفيدة. هي أقرب إلى التطبيل والتزمير، أكثر منها حقيقة. تثير الجدل. تخلق مناخات من الفوضى الداخلية والخارجية. تعيق تقدُّم الاستحقاقات المُجدية. فيما التطبيع الوحيد المطلوب والنافع، الذي يجب أن ينفّذ، هو استكمال التطبيع اللبناني مع “الحزب”، والقدرة على دمجه من جديد، وعودته حزباً سياسياً في كنف الدولة. فهل يستطيع لبنان الرسمي والشعبي الذي يرفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي النجاح في التطبيع مع “الحزب”؟

 

قطع لبنان الرّسميّ الطّريق على التّطبيع

يرفض لبنان الرسمي التطبيع. حدّد موقفُه بشكل صريح علاقتَه بالكيان الإسرائيلي، ضمن الحدّين اللبناني والعربي. فهو ملتزم:

  • لبنانيّاً: اتفاقية الهدنة لعام 1949، أي حالة “اللاحرب واللاسلم”، وليس مع السلام.
  • عربيّاً ودوليّاً: وضع نفسه في تناسق تامّ مع فريق الإجماع العربي، وتحت مظلّة جامعة الدول العربية، ليكون جزءاً من الاستقرار الأممي يلتزم تطبيق المواثيق والقرارات الدولية.

تقف العلاقة اللبنانية مع الكيان الإسرائيلي عند خطّ اتّفاق الهدنة 1949، في تنفيذها واحترامها

تقف العلاقة اللبنانية مع الكيان الإسرائيلي عند خطّ اتّفاق الهدنة 1949، في تنفيذها واحترامها. تضع لبنان ضمن خانة الهدنة القانونية والاتفاقية السلمية. تجد منطلقها عبر تطبيق اتفاق الهدنة والقرارات الدولية ذات الصلة. تشكّل هذه المسيرة أولويّات العهد المستجدّة. تتجلّى أيضاً في متابعة تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار والقرارات الدولية المتّصلة به، أي الانتقال من مرحلة وقف العمليات العدائية إلى مرحلة وقف إطلاق النار.

تتزامن مع مواصلة الدولة الخطوات العملية من أجل بلوغ مرحلة حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، والتحوّل من حالة الازدواجية إلى حالة الوحدانية الرسمية للدولة في بسط سيطرتها وسلطتها الأمنيّة والعسكرية والسياسية. يترافق ذلك مع الضغط لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية وتحريرها دبلوماسيّاً.

تتبيّن أيضاً في استكمال تطبيق الطائف، وتنفيذ القرارات الدولية وفي مقدَّمها الـ1701 وكلّ ملحقاته المنصوصة، وخاصة القرارين 1559 و1680. تفتح هذه الورشة طريق تثبيت وضع الحدود المرسّمة أصلاً عبر اتّفاق بوليه نيوكمب 1923، والمدرج ضمن اتفاق الهدنة ذاته. وتقع في صلب صلاحيّات اللجنة الخماسية الأمنيّة في إدارة المفاوضات الجارية حاليّاً بين البلدين. وهي ليست للتطبيع أبداً، وإنّما تقنيّة لاستكمال تطبيق وتنفيذ الاتفاقية.

لذا كلّ كلام يدور حول التطبيع هو إعلاميّ، لا سيما مع وجود أيديولوجيّات مختلفة، عسكرية إسرائيلية، وسياسية أميركية، وتحريرية وتقنيّة لبنانية. تهدف فقط في بيروت إلى تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار وتحرير الأراضي والعودة إلى الهدنة.

ينطلق سياق العلاقة العربية والدولية من مفهوم الشرعية، كدولة من الصراع مع الكيان الإسرائيلي، وموقفه من القضية الفلسطينية والنزاع حولها. تنحصر لناحية التزام وتنفيذ القرارات الدولية. تصطفّ وراء جهود جامعة الدول العربية وإجماعها على مبادرة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز العربية، في قمّة بيروت 2002، التي طالبت بالأرض مقابل السلام وبحلّ الدولتين ضمن حدود 1967.

كلّ كلام يدور حول التطبيع هو إعلاميّ، لا سيما مع وجود أيديولوجيّات مختلفة، عسكرية إسرائيلية، وسياسية أميركية، وتحريرية وتقنيّة لبنانية

تطبيع الدّولة مع “الحزب”

تشكّل علاقة الدولة مع “الحزب” وتطبيع السلوك معه تحت سقف الدستور، باب العبور إلى نجاة البلاد. يكمن تحدّي الدولة الجوهري في كيفية تأطير “الحزب” سياسياً. وتتلخّص أوّل هذه التحدّيات ومشاكل الاندماج مع الدولة في اعتبار “الحزب” أنّ ولاية الفقيه هي مصدر السلطات، فيما يعتبر لبنان أنّ الشعب هو مصدر هذه السلطات.

تلوح في أفق هذه المسيرة كيفية حلّ مشكلة الانتماء إلى العقيدة اللبنانية أكثر من العودة بها إلى الدولة، لا سيما مع مواقف “الحزب” المتناقضة من الدولة والجيش اللبناني، وعراضات التخوين الدائمة من جمهوره، إذ يتكرّس نجاح الدمج عبر تحوّله إلى السياسة والمدنية، كبقيّة الأحزاب اللبنانية. ويتطلّب انصهاره في الدولة نسقيّة إلغاء نفسه وتبديل شخصيّته وتقيّته كتنظيم عسكري وعقيدته الفقهية.

تتمحور صراحة الإشكالية حول مدى القدرة والنجاح في إقناعه بالخروج من هيكلية الدويلة التقسيمية المهيمنة على الدولة والقبول باللبننة الخالصة. وهو ما يعدّ مستحيلاً مع وجود عقيدة أيديولوجية تترجم الولاء الديني سخّرها ويسخّرها في خدمة المركزية في طهران، عبر ترويجه لنموذج فدرالية ولاية الفقيه، التي جعلت من لبنان إحدى ولاياتها.

إقرأ أيضاً: “الأهالي” والجيش: “الحزب” أو الدّولة؟

يحقّق لبنان من نجاح الدمج والتطبيع النافع مع “الحزب” خطوة كبيرة نحو الكيانية اللبنانية، ويحضّر منها لشكل جديد من العلاقة بين الدولة وأيّ حزب تحت سقف الدستور اللبناني. ويتحدّد نجاح الامتزاج مع “الحزب” من خلال إنهاء حالة تمرّد “الحزب” على لبنان والدول العربية الشقيقة. يجب أن ينهي التطبيع اللبناني – اللبناني زمن حزبيّة السلاح وشخصنته. فالدولة هي التي تدافع عن السيادة، ويجب أن تضع حدّاً لعصر استباحتها ضمن سرديّات ما بعد المقاومة غير اللبنانية.

يمهّد الاندماج مع “الحزب” لعصر الدولة اللبنانية الوحيدة. يعزّز أيضاً مسلّمات بناء الشرعية اللبنانية، ويؤسّس للحوارات والمصارحات العادلة، ويبني المصالحات المتساوية تحت سقف الدستور اللبناني. عندئذٍ يستطيع لبنان أن يكون كتلة شرعية متكاملة، أرضاً وشعباً ومؤسّسات، فيصبح قادراً على صدّ أيّ عدوان عبر الجيش، ومواجهة أيّ تهديد إقليمي أو حتى وجوديّ.

مواضيع ذات صلة

عقيدة زايد

تكتسب ذكرى رحيل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان في 19 رمضان، قبل 21 عاماً، معنى يفيض عن مُجرّد الاحتفاء الوطني في الإمارات…

“كلّنا إرادة” و”الحزب”… حكاية لها وقائع (2/3)

“قمنا بحملة كبيرة العام الماضي لنقول إنّنا ضدّ حرب الإسناد، ونحن فخورون بموقفنا السيادي ضدّ الحرب، لا علاقة لـ”كلّنا إرادة” بالحزب”. بهذه الكلمات حاولت ديانا…

فرصة طهران الأخيرة

تدخل الأزمة المستمرّة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني مرحلة أكثر خطورة، مع ارتفاع احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة بين الطرفين، وسط تزايد…

الشّرق الأوسط في قلب لعبة الأمم

أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب ثلاث مبادرات من شأنها أن تغيّر العالم:   – المبادرة الأولى في الشرق الأوسط تقوم على أساس أنّ اسرائيل على…