“تقديراً لدوره البارز في المشهد الفنّي الفلسطيني، ومساهماته في توثيق معاناة الفلسطينيّين عبر الفنّ التشكيلي، خلال الحروب التي مرت بها غزّة”، اختارت وزارة الثقافة الفلسطينية الفنّان التشكيلي والمصوّر الغزّيّ باسل المقوسي شخصيّة العام الثقافيّة لسنة 2025.
من قال إنّ غزّة خالية إلّا من القصف والدمار والأشلاء والموت؟ من قال إنّ غزّة ليس فيها سوى الرصاص والقذائف؟ تحضر غزّة على وجه الخصوص، وفلسطين عموماً، فتحضر المقاومة. المقاومة قدر الفلسطينيّين.
هذا صحيح ومسلّم به، لكنّ من قال إنّ المقاومة تكون بالسلاح والرصاص فقط؟ من قال إنّها لا تكون إلّا بتشكيل عسكري؟ تكون المقاومة بتشكيل فنّي أيضاً. وتكون بريشةٍ أيضاً، لا بالأسلحة وقاذفات الصواريخ وغيرها من الوسائل القتالية. أن يتنفّس الفلسطيني هو فعل مقاومة في زمن الإبادة، وفي زمن الاستفراد بالضحيّة. فكيف إذا كتب ورسم ووثّق؟ كيف إذا أعدّ كميناً عسكرياً لجنود الاحتلال، وفي الوقت عينه أعدّ دراسةً وكتب قصيدةً وأبدع روايةً… ورسم لوحة؟
الكمين قد يودي بالطرفين في أحايين كثيرة: من أعدّه ومن وقع فيه، لكنّ اللوحة تخلّد صاحبها وراسم خطوطها وناسج ألوانها، وتبقي على طرفَيها، راسمها وصاحب المعاناة فيها وناقلها، والمتسبّب في رسمها. بل أكثر من ذلك، اللوحة قد تستأصل الحقد والقتل والمعاناة، خارج اللوحة، برسمها وتلوينها وتخليد ما كان، علّ ما سيأتي يكون على هيئة رسمة أبدع صاحبها، أو قصيدة بثّها قائلها معاناة شعبه ومآسيه، أو رواية تُقرأ قبل النوم، فتقضّ المضاجع ليستيقظ ضميرٌ من سبات طال كثيراً.
من أجل الإنسان… وفلسطين
“الفنّ هو الهواء الذي نتنفّسه”. هذا ما قاله باسل المقوسي على أنقاض بيته المدمّر عام 2008، بُعيد الحرب الإسرائيلية على غزّة يومها. لم يبكِ المقوسي حينها، ولا هو ذهب للوقوف على الأطلال، وإنّما قصد ما كان بيته قبل الحرب، لينقذ ما يمكن إنقاذه من لوحات وصور لتشهد على جرائم الاحتلال الذي يعدّ اللوحة الفنّية التشكيلية الفلسطينية أشدّ خطراً عليه وعلى وجوده من الإنسان الفلسطيني نفسه.
أسّس المقوسي “مشروع شظايا”، وهو مشروعه الفنّيّ الأخير الذي نفّذه خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزّة، حيث رسم أكثر من 600 لوحة خلال فترة الحرب
لاحقاً، على إثر حرب إسرائيل على غزّة عام 2021، وقف المقوسي في المكان عينه، وعلى الأطلال نفسها، ليقول: “أرسم من أجل إنسانيّتي وفلسطين”.
أمس، يوم اختارته وزارة الثقافة الفلسطينية شخصية عام 2025 الثقافية، قال لوكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”: “طوال حياتي الفنّية، كنت مؤمناً بأنّ الفنّ هو أحد أشكال المقاومة، وأداة للحفاظ على الهويّة الفلسطينية، وخلال الحروب المتكرّرة على غزّة، وجدت نفسي في مواجهة واقع قاسٍ، لكنّني قرّرت أن أستخدم الريشة وسيلةً لنقل صوت شعبي إلى العالم”.
عليه، ما بدّل المقوسي تبديلاً. وُلد فلسطينياً، أي وُلد مقاوماً، ومقاوماً لا يزال يتصدّى للاحتلال، حتّى يومنا هذا، بريشة! بريشة في مهبّ الاحتلال.
مؤرّخ بصريّ لا فنّان وحسب
خلال مؤتمر صحافي لمناسبة يوم الثقافة الفلسطينية، قال وزير الثقافة الفلسطيني عماد حمدان: “باسل المقوسي ليس فنّاناً تشكيليّاً وحسب، بل هو مؤرّخ بصريّ استطاع أن يحوّل الألم والمعاناة إلى لوحات فنّية تحمل رسالةً للعالم أجمع”. فمن يكون هذا المؤرّخ البصري، الذي يفعل ما تعجز عنه فصائل ومقاومات وترسانة عسكرية ضخمة، بخطوط من فحم، ورسوم من ألوان، وكاميرا متاحة في كلّ يد؟
هو باسل صلاح المقوسي، الفنّان التشكيلي والمصوّر الفلسطيني. وُلد في غزّة سنة 1971، ونشأ في كنف والده الذي راح يراقبه وهو يصحّح كرّاسات الطلّاب، أو يرسم، ثمّ يسعى إلى تقليده فلا يلقى من أبيه سوى التشجيع.
درس العلاقات العامّة والإعلام، وعمل في جمعية جباليا للتأهيل، وواظب على نشاطه الإبداعي فأصبح معلّماً للفنون والرسم لروّاد الجمعية. لاحقاً كان واحداً من مؤسّسي “شبابيك من غزّة للفنّ المعاصر”، وشارك أيضاً في أكاديمية الفنون الصيفية في دارة الفنون التابعة لمؤسّسة خالد شومان في الأردن، تحت إشراف الفنّان مروان قصّاب باشي.
نعم، في غزّة ثكالى ومكلومون وجثث ورصاص وقنابل وصواريخ… ودمار. لكنّ فيها أيضاً ريشة اسمها باسل المقوسي، ريشة اسمها فلسطين
إلى ذلك، أسّس المقوسي “مشروع شظايا”، وهو مشروعه الفنّيّ الأخير الذي نفّذه خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزّة، حيث رسم أكثر من 600 لوحة خلال فترة الحرب، مستخدماً الفحم على أوراق بيضاء. وأطلق المقوسي مشروع “إقامات فنّية وليست نزوحاً”، وهو عبارة عن ورش رسم للأطفال النازحين في مختلف المناطق التي ترزح تحت وطأة الحرب، مثل غزّة، والشيخ رضوان، والشاطئ، والرمال، وخان يونس، ورفح، ودير البلح، والزوايدة وغيرها.
تطغى فلسطين والفلسطينيون بمعاناتهم ومآسيهم وشروط الحياة شبه المنعدمة في البلاد، على لوحات المقوسي. وتندرج أعماله في إطار الفنّ المقاوم أو الفنّ الملتزم، وتمتاز بمضمونها وبراعتها في تجسيد ما يعاني منه الفلسطينيون، من خلال الوجوه التي فيها الأشكال والألوان التي تعكس ما يجري على أرض الواقع، فتلخّص المأساة وترسم في الأفق بريق أمل. وبذلك يؤرّخ المقوسي بريشته، وصوره الفوتوغرافية، للّحظة الفلسطينية في كلّ آن وأوان.
ريشة فلسطينيّة
حسناً فعلت وزارة الثقافة الفلسطينية باختيارها المقوسي، شخصية العام الثقافية، في ظلّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي لا تنتهي، والتي لا يعرف أحد متى تتوقّف ولا متى تستأنف إسرائيل جرائمها عبرها. فبينما ترحل عيون العالم أجمع مع كلّ مجزرة إلى غزّة وفلسطين، حيث يقدّم الإعلام العالمي بغالبيّته الشعب الفلسطيني كما تشتهي إسرائيل والسرديّة الإسرائيلية، أي على أنه شعب “إرهابي” لا يجيد إلّا القتل والتعرّض للمدنيين العُزّل، تقدّم وزارة الثقافة الفلسطينية للعالم ريشةً فلسطينيّةً تحاول أن ترسم مستقبلاً لا تنتشر فيه جثث الأطفال على جنبات الطرق، ولا يسيّر الحياة فيه “الفنّ الإسرائيليّ”، فنّ القتل والإلغاء ونشر الكراهية واحتلال أملاك الغير.
إقرأ أيضاً: “الأهالي” والجيش: “الحزب” أو الدّولة؟
نعم، في غزّة ثكالى ومكلومون وجثث ورصاص وقنابل وصواريخ… ودمار. لكنّ فيها أيضاً ريشة اسمها باسل المقوسي، ريشة اسمها فلسطين.
لمتابعة الكاتب على X: