بعد زلزال السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل حرباً لم تتوقّع طول أمدها وفداحة خسائرها، ولم تقدّر بدقّة امتداداتها وتطوّرها إلى ما يشبه حرباً إقليمية، وصفها بنيامين نتنياهو بحرب الجبهات السبع، والحرب الوجودية بالنسبة لإسرائيل، ووضع لها هدفاً أكبر بكثير من إمكاناته حتّى لو شاركته فيها أميركا، وهو تغيير الشرق الأوسط، بحيث يتحوّل إلى منطقة نفوذ إسرائيلية تكون فيها الدولة العبرية صاحبة اليد العليا في أمنها واقتصادها وخياراتها السياسية من خلال تعميم مسار أبراهام التطبيعي.
غير أنّ أمرين حدثا والحرب لا تزال مشتعلة: الأوّل رأى فيه نتنياهو تطوّراً استراتيجيّاً لمصلحته، وهو وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بفوزٍ منقطع النظير، يغري بإعادة إحياء صفقة القرن تحت عنوان مختلف لكن بمضمون أكثر إجحافاً بحقوق الفلسطينيين.
الثاني في غير مصلحته، وهو اتّساع الانهيارات والاشتعالات الداخلية في إسرائيل ليس فقط بفعل ما أنتجته الحرب الطويلة من خسارات لم تتعوّدها طوال عمرها وكثرة حروبها، وإنّما من خلال التغيير الشامل الذي يقوده الائتلاف اليميني الحاكم.
للمرّة الأولى في تاريخ إسرائيل يترافق التغيير وفق أجندة اليمين مع الحرب التي إن هدأت في مكان تشتعل في مكان آخر، وإن تمّ احتواؤها بهدنة وتبادل وفق سيناريو وضعته إدارة جو بايدن فإنّ عودتها للاشتعال تبدو حتميّةً مع إدارة أخرى، وهذا ما وصلت إليه الأمور الآن.
الصراع بين نتنياهو والمؤسّسة الأمنيّة والعسكرية وصل حدّ إقالة كلّ ضابط مسؤول من رتبة جنرال إلى وزير لاختلافه معه، وآخرهم رئيس “الشاباك”
الشرق الأوسط منذ وجد على خريطة الكون لم يتغيّر ولن يتغيّر، لا بفعل صراعاته الداخلية المنتشرة فيه كانتشار الشرايين في الجسد، ولا بقوّة التدخّلات الخارجية واستقطاباتها واستثماراتها الخاسرة فيه على الدوام، فكلّ الحروب التي اشتعلت على أرضه لم تنتهِ إلى نتائج حاسمة بقدر ما كانت مقدّمات لحروبٍ جديدة. حتّى المعاهدات التي تمّ إبرامها تحت عنوان السلام وإنهاء الحروب، خصوصاً مع دولتَي التماسّ المباشر مع إسرائيل، مصر والأردن، وإن كانت أنهت حروب الجيوش النظامية، إلا أنّها لم تنهِ حروباً أخطر وأعمق وأفدح خسائر، ليست آخِرتها حرب الجبهات السبع التي إن تكسّرت بعض حلقاتها أو حتى تكسّرت كلّها فسوف يبقى الشرق الأوسط على حاله، تجتاحه الفوضى والقضايا الداخلية والبينيّة التي لا حلّ لها، ومن ضمنها القضيّة الأهمّ والأقدم والأعمق، قضيّة فلسطين.
الشّرق الأوسط لن يكون مستوطنة
لا شكّ أنّ هنالك تغييرات حدثت أكثر من مرّة وبعد أكثر من حرب، من حيث أحجام القوى وبلوغ تسويات هشّةٍ على بعض جبهاتها، إلّا أنّ تغيير هذا اللغز الكونيّ المسمّى الشرق الأوسط ليكون مستوطنة إسرائيلية أو حتى أميركية أو الولاية الثانية والخمسين بعد كندا، يبدو وهماً، وإن تحقّقت بعض مظاهره فالحقيقة الأقوى تقول إنّ كلّ ما يتّصل بالشرق الأوسط مؤقّت ومتحرّك ومفاجئ. ألم تفكّر أميركا جدّياً بالانسحاب منه؟ ألم ينسحب قبلها أو يطرد الاتّحاد السوفيتي منه؟ ألم تتكيّف الصين مع الفوضى والصراعات المتفجّرة فيه لتدخله من باب البضائع الرخيصة والتجارة المربحة؟
إسرائيل في قالب حربيّ لا خروج منه
تحوّلت حرب تغيير الشرق الأوسط وفق طروحات نتنياهو في الواقع إلى حرب تغيير إسرائيل ذاتها، فكلّ شيء فيها صار موضوع صراعٍ واقتتال يلامس الحافة على مستوى التهديد الوجوديّ، وهذا ما يقال في إسرائيل ذاتها.
تحوّلت حرب تغيير الشرق الأوسط إلى حرب تغيير إسرائيل ذاتها، فكلّ شيء فيها صار موضوع صراعٍ واقتتال
الحرب على غزّة وامتداداتها القديمة والمحتملة ليست محلّ إجماع في إسرائيل مثلما كانت عليه الحروب السابقة، والتغييرات القضائية التي يعمل عليها الائتلاف الحكومي بقيادة الثلاثي نتنياهو-بن غفير-سموتريتش قسّمت المجتمع الإسرائيلي إلى قسمين يدور بينهما صراعٌ يتعمّق كلّ يوم وينتقل من واجهات القوى السياسية ومؤسّسات الدولة إلى الشارع العامّ.
الصراع بين نتنياهو والمؤسّسة الأمنيّة والعسكرية وصل حدّ إقالة كلّ ضابط مسؤول من رتبة جنرال إلى وزير لاختلافه معه، وآخرهم رئيس “الشاباك” الذي أُقيل ليس لتقصيره الظاهر في زلزال السابع من أكتوبر، وإنّما لما لديه من معلومات موثّقة عن فساد نتنياهو ومكتبه يهدّد بنشرها، وآخرها “قطر غيت” وقضايا أخرى.
هذا الذي يجري في إسرائيل داخلياً لا يملك نتنياهو من سلاح لإبعاد عصفه المتنامي عن رقبته سوى الحرب التي يسعى لتجديدها على كلّ جبهاتها من غزّة إلى لبنان فسوريا فاليمن ثمّ إيران.
إقرأ أيضاُ: نتنياهو يواجه “أزماته” بالحرب على غزّة
بفضل ظاهرة نتنياهو صارت الحرب الدائمة هي السبب الوحيد للبقاء في السلطة، ولكلّ من يحكم إسرائيل أسبابه وتسميته الخاصّة به للحروب التي يخوضها، وإذا ما كان من نجاحٍ أكيد لنتنياهو فهو وضع إسرائيل في قالب حربيّ لا مخرج منه ولا خلاصات حاسمة له.