مريبٌ ما جرى في بلدة حوش السيّد علي بالهرمل عند دخول قافلة من الجيش اللبناني للسيطرة على الأوضاع الأمنيّة هناك. مريبٌ ويبدد كلّ أمل يلوح في الأفق اللبناني. أبعد من ذلك، هو أخطر على لبنان من الاشتباكات التي اندلعت على الحدود اللبنانية – السورية بين القوّات السوريّة وعشائر لبنانية مسلّحة، وحتى من تجاوز الحدود نفسها واحتلال أراضٍ لبنانية.
“لبّيك يا نصرالله… لبّيك يا نصرالله” ردّد الأهالي هناك، وهم يستقبلون الجيش اللبناني الذي هبّ لنصرتهم والدفاع عنهم وعن ممتلكاتهم. لم يكتفوا بذلك وحسب، بل انهالوا على الجيش باتّهامات بالعمالة والخيانة، وهتفوا عند دخوله الأراضي اللبنانية من البلدة “عملاء… عملاء”.
هتف الأهالي للسيّد حسن نصرالله، الأمين العامّ لـ”الحزب” الراحل، في وجه الجيش، وكأنّ الذي بين “الحزب” والأخير ثأر قديم. وكأنّهما على طرفَي نقيض. وكأنّ بيانات الحكومات المتعاقبة منذ تسعينيات القرن الماضي، الوزارية، لم تجمعهما في معادلة حكمت البلد لسنوات: “الجيش والشعب والمقاومة”. وكأنّها كانت “كذبةً”، وما قيل في سياقها تمجيداً لها أضغاث أحلام وكلمات ومواقف. فالشعب في حوش السيّد علي يتّهم الجيش بالعمالة والخيانة، ويضع “الحزب” في جهة مقابلة بل مواجِهة له. فلا جيش ولا شعب ولا مقاومة… ولا حدود ولا وطن.
ثقافة عتيقة
ما قام به الأهالي في بلدة حوش السيّد علي ليس وليد الاشتباكات الأخيرة، ولا التطوّرات التي سبقتها في سوريا، أي سقوط نظام الأسد وتبوُّؤ أحمد الشرع سدّة الرئاسة. ليس أيضاً وليد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ولا من إرهاصاتها. ما قام به أهالي حوش السيّد علي من تخوين للجيش واتّهام له بالعمالة وتصنيفه على طرف نقيض من “الحزب” أو “المقاومة”، أو حتى “الطائفة” عطفاً على تسجيلات أهليّة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة تهاجم رئيسَي الجمهورية والحكومة والجيش… إلخ، ليس إلّا نتاج ثقافة عمل “الحزب” على ترسيخها في بيئته الحاضنة طوال عقود هي كلّ مسيرته حتّى الآن.
الدولة ثقافة أوّلاً وأخيراً. اللادولة كذلك الأمر. ثقافة اللادولة هذه، وسياسة تفتيت المجتمعات، مصدرهما النظام الإيراني
كيف للحزب أن يسوّق سلاحه ويبرّر حمله لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين؟ عبر التبخيس بالجيش، حيناً بالقول إنّ عقيدته “غير وطنية” كما راج على وجه الخصوص إبّان العقد الأوّل من عمر “الحزب” في فترة الثمانينيّات، وأحياناً عبر ترويج أنّه غير مجهّز كما يجب لمواجهة إسرائيل، وصولاً إلى مقاسمته دوره ووظيفته وواجبه في حماية الوطن من التهديدات الإسرائيلية.
لماذا الآن؟
إلى ثقافة معاداة الجيش كما سبق، لا بدّ من الوقوف على سياق الاتّهامات السابقة الذكر، للولوج إلى الخطاب الذي يقف خلفها. لماذا الآن؟ لمزيد من التحديد: لماذا اتّهام الجيش بالعمالة والخيانة اليوم؟
يقف “الحزب” اليوم مكبّل اليدين بعد الهزيمة التي مُني بها أخيراً. خسائره البشرية وغير البشرية لم تعُد خافيةً على أحد. كذلك الأمر بالنسبة إلى حجم الهجمة التي تستهدفه. ثمّة قرار كبير بنزع سلاحه، يقف إزاءه “الحزب” قيادةً وبيئةً حاضنةً مجرّداً إلّا من الكلام، من الاتّهامات. من ينزع سلاح “الحزب”؟ المنطق يقول: الجيش اللبناني. إذاً، فلنستبق الأمور ونشنّ حملة تخوين عليه، فيرتدع. وكأنّ “الحزب” قد خلُص إلى معادلة واضحة: إمّا الجيش أو “الحزب”، إمّا الدولة أو “المقاومة”.
استباق الأمور ليس سياسةً جديدةً لدى “الحزب”، بل نهج عمره من عمر الحزب. ألم يقُم بما قام به في 7 أيار، استباقاً للأمور؟ وإلى سوريا ألم يذهب استباقاً لمعركة “حتمية”؟ وعام 2006، ألم يستبق الحرب الإسرائيلية التي كانت مقرّرةً في أيلول كما روّج، ونفّذ عمليّته الشهيرة في تمّوز؟
سلاح “الحزب” الأمضى في استباق الأمور، “الأهالي”. أهالي قرى البيئة الحاضنة والمناطق الحاضنة.
ولكن هل تحمي هذه الثقافة تلك البيئة؟ هل تبني دولةً؟ هل تدرأ الخطر الإسرائيلي؟ أيّ لبنان بعد هذه الاتّهامات وذاك التخوين وهذا الاصطفاف؟
يقف “الحزب” اليوم مكبّل اليدين بعد الهزيمة التي مُني بها أخيراً. خسائره البشرية وغير البشرية لم تعُد خافيةً على أحد
علامَ يراهن “الحزب”؟
يبدو ممّا يصدر عن الأهالي من مواقف واتّهامات أنّ “الحزب” لم يقرأ إلى الآن المشهد جيّداً. لم يعتبر ممّا جرى. وفي أحسن تقدير، يبدو مستمرّاً في تعميم ثقافته على بيئته الحاضنة، لئلّا يبدو مهزوماً أمامها، أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والحدّ من الخسائر. فضرب الجيش في سمعته وهيبته ودوره وواجباته، ضرب لـ”الحزب” وبيئته، أوّلاً وقبل أيّ طرف آخر. يدرك “الحزب” جيّداً أن لا حرب جديدةً تلوح في أفق الجنوب. المعطيات على أرض الواقع، من إيران إلى أميركا إلى غزّة مروراً بسوريا وانتهاءً بلبنان وجنوب لبنان، تقول ذلك. فعلامَ يراهن “الحزب”؟ على ضرب الجيش، حصن الوطن الأوّل والأخير؟
الدولة ثقافة أوّلاً وأخيراً. اللادولة كذلك الأمر. ثقافة اللادولة هذه، وسياسة تفتيت المجتمعات وتسليح الجماعات الأهلية، مصدرهما النظام الإيراني. بهما فعلت إيران ما فعلت في العراق وسوريا واليمن ولبنان… وحتى فلسطين. انحسار النفوذ الإيراني عن المنطقة، لا يعني بالضرورة انحسار الثقافة الإيرانية الآنفة الذكر. النفوذ يذهب ثمّ يعود، لكنّ الثقافة هذه تُذهب كلّ شيء أدراج الرياح. أدراج الخراب.
إقرأ أيضاً: بعد العسكريّ والسّياسيّ… “الحزب” الدبلوماسيّ؟
قبل نزع السلاح من “الحزب”، الأولوية لنزع هذه الثقافة، فهو السبيل الوحيد لاستيعاب السلاح وحمَلته والحاضنين.
لمتابعة الكاتب على X: