الاعتقاد بأنّ قضية جزيرة “غرينلاند” التي يطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بضمّها إلى الولايات المتّحدة هي شأن أميركي – أوروبي، أو شأن أميركي – روسي، هو منطق خاطئ. فالجزيرة المتجمّدة التي بدأت ثلوجها بالذوبان والسيلان، أصبحت شأناً عالمياً، والصراع عليها من شأنه أن يرفع من مستوى حرارة المياه المتجمّدة فيها وحولها، الأمر الذي يزيد من ارتفاع مستوى مياه البحار في العالم، ويهدّد المدن الساحلية في القارّات الخمس كلّها.
لم يكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو أوّل من فتح ملفّ الجزيرة. في عام 320 قبل الميلاد قام بحّار يوناني يُدعى “بيثيوس” بالإبحار شمالاً حتّى وصل إلى غرينلاند. يومها وصفها بأنّها “الأرض التي لا ضوء فيها ليلاً ولا نهاراً. البحار فيها متجمّدة وتتداخل مع الأرض بحيث لا تعرف أين ينتهي البحر وأين تبدأ اليابسة”، كما جاء في وصفه.
تغيّرت هذه الصورة اليوم. فمع انحسار الثلوج وتراجع حجم تراكمها في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية، أصبحت الملاحة العسكرية والتجارية ممكنة، وأصبح التنقيب عن المعادن الثمينة والنادرة في هذه البحار ممكناً أيضاً. وهو ما فتح شهيّة الرئيس ترامب للسيطرة عليها بما هي ضرورة استراتيجية لأمن الولايات المتحدة.
حرّك هذا التغيير المشاعر الوطنية في الدانمرك للمطالبة بالاحتفاظ بالجزيرة جزءاً من المملكة. وأيقظ وطنيّة أهل الجزيرة “المجهولين” للمطالبة بالسيادة الوطنية عليها بعيداً عن الحسابات الخارجية والمصالح الدولية المتصارعة، كما دلّت على ذلك الانتخابات العامّة الأخيرة التي جرت في الجزيرة القليلة السكّان.
نجح الرئيس ترامب في تغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا… فهل ينجح في تغيير السيادة على غرينلاند من ولاية دانمركية إلى ولاية أميركية جديدة؟
يعلو جزيرة غرينلاند 2.85 مليون كيلومتر مكعّب من الثلوج. وهي كافية إذا ما تعرّضت للذوبان لرفع مستوى البحار في العالم سبعة أمتار. فماذا يكون مصير المدن الساحلية؟
يعلو جزيرة غرينلاند 2.85 مليون كيلومتر مكعّب من الثلوج. وهي كافية إذا ما تعرّضت للذوبان لرفع مستوى البحار في العالم سبعة أمتار
يتواصل الآن الذوبان تدريجياً نتيجة ارتفاع حرارة الكوكب الأرضيّ، وتصل في حدّها الأقصى إلى 3.3 مليمتر في السنة. ونتيجة للارتفاع الحراريّ الكبير الذي حصل صيف عام 2019، كانت حصّة غرينلاند وحدها من ارتفاع مستوى مياه البحار، الثلث تقريباً (أي مليمتر واحد).
لا يقتصر الأمر على هذا الارتفاع فقط على الرغم ممّا يشكّله من أخطار على القارّات الخمس، وما يسبّبه من كوارث مترتّبة على تسريع التغيير المناخي. ولكنّه يؤدّي أيضاً إلى ارتفاع حادّ وخطير جدّاً في مستوى غاز الميثان وغاز الكربون الضارّين بالإنسان وبالبيئة.
غنيّة بالموادّ العضويّة
فوق ذلك، تحتوي أرض غرينلاند المتجمّدة على ما يراوح بين 20 و50 في المئة من الموادّ العضوية. أمّا البحار الأخرى فلا تزيد نسبة هذه الموادّ فيها على 5 في المئة فقط. ومعنى ذلك، كما يعتقد العلماء، أنّ أرض الجزيرة المتجمّدة تحتوي على ما يراوح بين 20 و50 في المئة موادَّ عضوية. فإذا ارتفعت حرارة الأرض ستكون نتيجة ذلك إطلاق غازات الميثان وثاني أوكسيد الكربون بكميّات كبيرة جدّاً، الأمر الذي يشكّل خطراً على حياة الإنسان في أرجاء الكرة الأرضية كلّها.
حدث شيء بسيط من ذلك في مناطق سيبيريا، وهو ما أدّى إلى نشوب حرائق في غابات القطب الشمالي استمرّت عدّة أسابيع على نحو لم تعهده الإنسانية من قبل.
إقرأ أيضاً: تصدّع التّحالف الأميركيّ – الأوروبيّ… يغيّر العالم
ثمّ إنّ طبيعة الأرض في غرينلاند تختلف عن طبيعة المناطق الأخرى في العالم. ففي غرينلاند الغنيّة جدّاً بالحيوانات العضوية تراوح نسبة الموادّ العضوية فيها بين 20 و50 في المئة، أمّا النسبة في المناطق الأخرى من العالم فلا تزيد على 1.5 في المئة فقط. وهذا يعني أنّ التربة في غرينلاند تحتوي على 1.5 تريليون طن من الكربون. فمع ذوبان الثلوج عن هذه التربة واحتدام التنافس على استثمارها، فإنّ إطلاق هذا المخزون الكبير من الغاز السامّ من شأنه أن يعرّض الحياة الإنسانية للمزيد من الأخطار والكوارث.