عبدالرّحمن الدّاخل.. نجا من الموت فأسّس دولة (4-4)

انتهت الدولة الأمويّة مبكراً في المشرق لأسباب تضافرت وتقاطعت، ومنها أنّ الناس كانوا يحبّون آل العبّاس وآل عليّ، لانتسابهم إلى بيت النبوّة، ويُبغضون آل مروان بن الحكم. لكنّ أميراً أمويّاً شابّاً نجا من مذبحة العبّاسيين، واستطاع أن يقيم دولة أموية ثانية في مغرب الأرض، في بلاد الأندلس، وهي الدولة التي دامت ثلاثة أضعاف المدّة التي استغرقتها دولة المشرق (275 عاماً)، وأرست القواعد لحضارة زاهية. كانت شمس العرب التي تُشرق على أوروبا.

 

يرجع الفضل الأكبر في إسقاط الدولة الأموية إلى رجل فارسي هو أبو مسلم الخراساني (قُتل عام 754م)، ويصفه الذهبي في كتابه: “سِيَر أعلام النبلاء“، فيقول إنّه رجل عجيب ومن أكبر الملوك في الإسلام، صاحب الدعوة العبّاسية. دخل على حمار من الشام إلى خراسان، فإذا به يملكها بعد 9 أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة ويُقيم دولة أخرى.

هذا الخراسانيّ، وبأمر من قادة العبّاسيين، وبهدف استئصال الأمويّين وأنصارهم، كان مكلّفاً بقتل كلّ من يتكلّم العربية في خراسان، وهي منطقة ممتدّة بين أفغانستان وتركمانستان وإيران حاليّاً. ومع انتصار العباسيين على آخر خليفة أموي مروان بن محمد في معركة بالعراق في الزاب عام 750م، وهو الملقّب بالحمار، لصبره وجَلَده، لوحق الأمويون في كلّ مكان، للقضاء عليهم. وقُتل مروان بن محمد في قرية أبو صير بالإسكندرية.

عبدالرّحمن وبونابرت

أمّا ما أنجزه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك، المشهور بـ”الداخل”، فقد يتجاوز مع اعتبار الظروف والمفارقات، ما فعله نابليون بونابرت عام 1815م (توفّي عام 1821م) حين فرّ من منفاه في جزيرة ألبا، ووصل إلى برّ فرنسا فاحتفلت به الجماهير، وتجحفلت الجيوش مرّة أخرى، لقتال أعدائه الأوروبيين. فالأمويّ الشابّ الفارّ من الموت، والذي لم يُعلم عنه الخبرة في شؤون السياسة والحرب، تمكّن من الوصول إلى الأندلس، وفيها أتباع بني أميّة أو مَوَاليهم من قادة وجند، فسيطر عليها، وأخمد التمرّدات، وأنشأ سلالة أمويّة جديدة.

انتهت الدولة الأمويّة مبكراً في المشرق لأسباب تضافرت وتقاطعت

وُلد عبدالرحمن بأرض تدمر عام 731م في خلافة جدّه الخليفة الأمويّ العاشر، هشام بن عبدالملك (توفّي عام 743م). فرّ أوّلاً من سوريا، عام 750م، وعَبَر نهر الفرات سباحةً، فيما قتل الجنود العباسيون شقيقَيه الأصغرين على مرأى منه. انتقل إلى مصر، فإلى برقة (شرق ليبيا حالياً) حيث بقي خمس سنين، ثمّ دخل المغرب، فأرسل خادمه بدراً يتجسّس له، فقال للمُضريّة (القيسيّة)، وبنو أميّة منهم: لو وجدتم رجلاً من بيت الخلافة أكنتم تبايعونه؟ قالوا: وكيف لنا بذلك؟ فقال هذا عبدالرحمن بن معاوية، فأتوه فبايعوه.

دخل الأندلس في قارب صيد، فبعث إلى قائد من موالي بني أميّة فأعلمه بشأنه، فقبّل يديه وجعله عنده. كان أمير الأندلس آنذاك يوسف بن عبدالرحمن الفهري القرشي (توفّي عام 755م) وهو من القيسيّة أيضاً، وكان من القادة الدهاة والمتمرّسين بالقتال. تغلّب عبدالرحمن عليه، ودخل قرطبة، وتملّك الأندلس 33 سنة. وأوّل من تلقّب بلقب أمير المؤمنين من نسله، عبدالرحمن الناصر لدين الله (توفّي عام 961م) في حدود 923م، عندما بلغه ضعف خلفاء العصر، أي العبّاسيين، فقال: أنا أولى بإمرة المؤمنين.

منارة علم وحضارة

كانت الأندلس في أيّام الحكم الأموي، منارة علم في العالم الإسلامي، كالقاهرة وبغداد، ومن الحواضر الكبرى، بالمقارنة مع ما كانت عليه أوروبا القرون الوسطى. وجامعها الكبير في قرطبة، جامعة مفتوحة لكلّ طالب علم. كان المسلمون الأوائل فاتحو الأندلس عام 711م، قد شاطروا المسيحيين كنيستهم العظمى في قرطبة فجعلوا قسماً منها مسجداً، كما فعلوا في دمشق من قبل، فلمّا جاء عبدالرحمن إلى قرطبة، اشترى الجزء الثاني من الكنيسة وضمّه إلى المسجد. وذلك بعدما ضاق المسجد على المسلمين، مع اتّساع العمران، وتوافد العرب إليها.

ما أنجزه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك، المشهور بـ”الداخل”، فقد يتجاوز مع اعتبار الظروف والمفارقات، ما فعله نابليون بونابرت عام 1815م

بُني الجامع على نمط الجامع الكبير بدمشق المعروف. وتوالت التحسينات والإضافات عليه، على مدى سنوات الدولة الأمويّة. ففي زمن عبدالرحمن الداخل، أضحت أروقة الجامع سبعة. ثمّ أضاف من بعده حفيده الحَكَم بن هشام الرّبَضي (توفّي عام 822م) رواقَين، وكذلك فعل عبدالرحمن بن الحَكَم (توفّي عام 852م)، ثمّ زاد عليه الحاجب المنصور بن أبي عامر (توفّي عام 1002م)، ثمانية أروقة.

يقع الجامع على منحدر بسيط في اتّجاه الجنوب. عرضه 130 متراً، وطوله 180 متراً. وشكله كالحصن المنيع. وسوره الخارجي جدار مرتفع، وعليه أبراج مربّعة، بينها أبواب المسجد، وسقفه مغطّى بالقرميد على غرار الأبنية الإسبانية.

تحوّل جامع قرطبة إلى كاتدرائية مريم العذراء، بعد استرداد الإسبان المسيحيين للأندلس، على غرار ما حصل مع مئات المساجد الأخرى في الأندلس، التي استُبدلت بكنائس، بعدما هُدمت. بيْد أنّ مسجد قرطبة، ظلّ على حاله ولم يُهدم، إذ شفع له جمال بنيانه وبهاء هندسته. وبدل هدمه، بُنيت وسطه كاتدرائية. واسمه الحالي هو: “Mezquita-Catedral de Córdoba”، أي المسجد – الكاتدرائية في قرطبة.

كان محبّو العلم في أوروبا يفدون إلى مراكز الحضارة الأندلسية، ويقضون السنوات الطوال في الدراسة، والاطّلاع على كتب العرب فيها، بحسب ما أورده مؤلّفو كتاب “تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس“. ومن أبرز الذين تعلّموا في الأندلس، الراهب الفرنسي غربرت دي أورياك Gerbert d’Aurillac (توفّي عام 1003م)، وقد وفد إلى الأندلس في زمن الحَكَم المستنصر بالله (توفّي عام 976م)، واهتمّ بصورة خاصّة بدراسة العلوم الرياضية، وبرع فيها حتى خُيّل لعامّة الناس في فرنسا بعد رجوعه آنذاك بأنّه ساحر. وأصبح فيما بعد بابا روما باسم البابا سلفستر الثاني Sylvester II، الذي كان له دورٌ مهمّ في نشر علوم العرب في أوروبا، وهو أوّل من استعمل الأرقام العربية.

وُلد عبدالرحمن بأرض تدمر عام 731م في خلافة جدّه الخليفة الأمويّ العاشر، هشام بن عبدالملك (توفّي عام 743م). فرّ أوّلاً من سوريا، عام 750م

بعثات أوروبيّة إلى الأندلس

توالت البعثات الأوروبية على الأندلس بأعداد متزايدة سنة بعد أخرى حتى بلغ مجموع الأفراد سنة 924م في عهد الخليفة الناصر زهاء 700 طالب وطالبة. وكانت إحدى هذه البعثات من فرنسا برئاسة الأميرة إليزابيت، ابنة خال الملك لويس السادس (توفّي عام 1137م).

سار ملوك آخرون من أوروبا على هذا النهج، فقد أوفد ملك ويلز بعثة برئاسة ابنة أخيه كانت تضمّ ثماني عشرة فتاة من بنات الأشراف والأعيان، وقد وصلت هذه البعثة مدينة إشبيلية ومعها رسالة إلى الخليفة هشام المعتدّ بالله (توفّي عام 1037م). وقد استقبل خليفة الأندلس البعثة أحسن استقبال، وردّ على رسالة ملك ويلز. وحظيت هذه البعثة باهتمام رجال الدولة الذين قرّروا أن يُنفَق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين.

في الوقت نفسه، عمد بعض ملوك أوروبا إلى استقدام علماء الأندلس لتأسيس المدارس في بلدانهم. ففي خلال القرن التاسع الميلادي وما بعده، وقّعت حكومات هولندا وسكسونيا وإنكلترا على عقود مع حوالى 90 من الأساتذة العرب في الأندلس بمختلف العلوم. وقد اختير هؤلاء من بين أشهر العلماء الذين كانوا يحسنون اللغتين الإسبانية واللاتينية إلى جانب اللغة العربية.

إقرأ أيضاً: عبدالملك باعث دولة وعمر مُصلح مسموم (3-4)

وقّعت تلك الحكومات عقوداً أخرى مع حوالي 200 خبير عربي في مختلف الصناعات، ولا سيما إنشاء السفن وصناعة النسيج والزجاج والبناء وفنون الزراعة. ولقد أقام بعض المهندسين العرب أكبر جسر على نهر التايمز في بريطانيا عُرف باسم جسر هليشم (Helichem)، وهذه الكلمة تحريف لكلمة هشام خليفة الأندلس الذي أطلق الإنكليز اسمه على هذا الجسر عرفاناً بفضله لأنّه أرسل إليهم أولئك المهندسين. وكذلك شيّد مهندسون أندلسيون قباب الكنائس في بافاريا، ولا تزال توجد بإحدى المدن الألمانية شتوتغارت حتّى اليوم سقاية ماء تدعى أميديو (Amedeo)، وهو تحريف لكلمة أحمد المهندس العربي الذي بناها.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

عبدالملك باعث دولة وعمر مُصلح مسموم (3-4)

أخطاء يزيد بن معاوية أسقطت الدولة السفيانيّة في مبتدئها، فانتقلت السلطة إلى الفرع المروانيّ بقيادة مروان بن الحكم، الشخصية الإشكالية الذي كان السبب في تمرّد…

يزيد بن معاوية.. قوياً.. فظاً.. غليظاً..(2-4)

“كان معاوية وما يزال رجلاً تصعب معرفته. ومن الصعب كذلك التأكّد ممّا نعرفه حقّاً عنه، وحتّى فهم ما نعرفه أو نعتقد أنّنا نعرفه”، وذلك بحسب…

معاوية بن أبي سفيان.. طموح ودهاء (1-4)

الدولة الأمويّة “عربيّة أعرابيّة” بحسب تعبير الجاحظ (توفي عام 870م). وهي الدولة الكبرى في تاريخ الإسلام، إذ تمتدّ من حدود الصين إلى حدود فرنسا. كان…