أخطاء يزيد بن معاوية أسقطت الدولة السفيانيّة في مبتدئها، فانتقلت السلطة إلى الفرع المروانيّ بقيادة مروان بن الحكم، الشخصية الإشكالية الذي كان السبب في تمرّد جنود الأمصار على الخليفة عثمان بن عفّان، ثمّ قتله، وذلك بسبب تزوير رسالة على لسان عثمان. ولمّا كان والياً على المدينة لمعاوية، كان يسبّ عليّاً كلّ جمعة على المنبر.
افتتح يزيد دولته، كما يقول الذهبي، بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرّة، فمقته الناس، ولم يُبارَك له في عمره، إذ توفّي عام 684م، وجيشه يحاصر عبدالله بن الزبير (قُتل عام 692م) في مكّة ويرميها بالمنجنيق. فلمّا سمع بوفاته قائد جيش يزيد، الحصين بن نمير السَّكوني (توفّي عام 686م)، أوقف الحملة على ابن الزبير وعرض عليه المجيء إلى دمشق وتسلّم السلطة، ليكون خليفةً رسميّاً على كلّ البلدان، إلّا أنّه رفض الخروج من مكّة. فقد استعصم بها منذ تسلّم يزيد الحكم، ولم يبارحها حتّى قتله الحجّاج بن يوسف الثقفيّ (توفّي عام 714م).
هذه الوفاة المفاجئة أربكت البيت السفيانيّ بشدّة، فابنه، معاوية بن يزيد، تولّى الخلافة أربعين يوماً أو أقلّ من ذلك، ومات رافضاً تسمية أحد من بعده. ويقال إنّ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ابن أخ معاوية الأوّل، رفض الخلافة بعده. وهذا ما دفع مروان بن الحكم (توفّي عام 685م) إلى أن يستولي على الأمر دون خالد بن يزيد بن معاوية (توفّي عام 704م). واللافت أن يموت كلّ المرشّحين الطبيعيين ليزيد، وهم كلّهم في عزّ الشباب، فكأنّ اللعنة أصابت هذا البيت، فانتقلت السلطة إلى مروان بن الحكم ونسله، فقامت إذّاك الدولة المروانية، وهي في حقيقة الأمر دولة عبدالملك بن مروان الذي أعاد تأسيس الدولة الأمويّة من جديد.
مع فشل المحاولة الإصلاحية للدولة الأموية، بدأت مسيرة الانحدار، إلى أن تولى آخر خلفائها مروان بن محمد
الاستبداد بالسّيف
إنّ مبايعة أهل مصر والشام لابن الزبير، ما عدا دمشق، وانشقاق الفرع القيسيّ للقبائل المؤيّدة لبني أمية، وميلها إلى ابن الزبير، جعلا الموقف الأمويّ ميؤوساً منه، حتّى إنّ مروان بن الحكم كاد أن ينضمّ إلى الركب، لولا ثني عبيدالله بن زياد له (قُتل عام 687م). فكان مؤتمر القبائل في الجابية في سهل حوران عام 684م، محطّة فاصلة أفضت إلى ترسيخ الشرخ بين القيسيّين واليمنيّين. وعلى هذا الأساس، وقعت معركة مرج راهط، التي سقط فيها زعماء القبائل القيسية.
صحيح أنّ مروان بن الحكم نجح، لكنّ روح الثأر بين الفريقين استمرّت في القرون التالية، ووصلت إلى الأندلس. والأهمّ من ذلك أنّ الخليفة الشرعي كان عبدالله بن الزبير، وكان عبدالملك بن مروان هو الباغي عليه، ومن الخارجين على الخليفة، لكنّ المؤرّخين والفقهاء قليلاً ما يذكرون ذلك. فإذا كان معاوية تمكّن بالحيلة حيناً والقوّة حيناً آخر من الحصول على شرعيّة الحكم، إلّا أنّ عبدالملك بن مروان حصل على الخلافة بالقوّة الصريحة دون أيّ اعتبار ديني. تغلّب على العراق وخراسان، إلى أن حوصر ابن الزبير في مكّة، ثمّ قُتل .وعندما يذكر السيوطي (توفّي عام 1504م) خلفاء بني مروان، لا يذكر اسم مروان بن الحكم، لأنّه لم يكن يحمل أيّ صفة حقيقية، سوى أنّه حاكم دمشق المتمرّد على الخليفة القائم ابن الزبير.
ممّا ورد في خطاب عبدالملك بن مروان بعد انتصاره: “إنّ من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويُؤكلون. ألا وإنّي لا أداوي أدواء هذه الأمّة إلّا بالسيف. ولستُ بالخليفة المستضعَف، يعني عثمان بن عفّان، ولا الخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا الخليفة المأفون، يعني يزيد بن معاوية”. ومن أبرز معالم هذه الدولة المروانية، تولية الحجّاج بن يوسف الثقفي (توفّي عام 714م) على العراق والمشرق كلّه، أي ما وراء العراق من جهة الشرق، واستمراره في منصبه عشرين عاماً. ويذكره الذهبي في كتابه: “سير أعلام النبلاء“، فيقول:
الخطأ الأساسي هو التفريط بالعصبيّة القبلية التي استند إليها معاوية مؤسّس الدولة، أي القبائل اليمنية
“كان ظلوماً جبّاراً ناصبيّاً خبيثاً سافكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن.. فنسبُّه ولا نحبّه بل نبغضه في الله، فإنّ ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء”.
أمّا الجانب الآخر من دولة عبدالملك فكان البناء الإداري الذي هو استكمال لما بدأه عمر بن الخطّاب قبله، كما يؤكّد الدكتور إبراهيم بيضون في كتابه: “من دولة عمر إلى دولة عبدالملك”. ومن أهمّ إنجازاته صكّ العملة الإسلامية (الدينار)، وكان الخلفاء قبله يستعملون الدنانير البيزنطية والدراهم الساسانية، وبدأ بتعريب الدواوين، وكانوا يعتمدون على السكّان المحليّين في البلدان المفتوحة.
محاولة فاشلة للإصلاح
توفّي سليمان بن عبدالملك عام 717م. وفي مرض الموت، ولّى عمر بن عبدالعزيز (توفّي عام 720م) من بعده، بدلاً من ابنه الصغير أو أحد أشقّائه، بنصيحة من الواعظ رجاء بن حَيْوة الكندي (توفّي عام 730م) . وعلى الرغم من المدّة القصيرة التي أمضاها في السلطة إلّا أنّه تُنسب إليه أعمال كثيرة من بسط العدل بين الرعيّة، والحفاظ على بيت المال من تسلّط بني أميّة عليه. أوقف الفتوحات، وأعفى الداخلين إلى الإسلام من الجزية، وكان بنو أميّة لا يرفعونها عنهم، فكان قوله الشهير: “إنّ الله بعث محمّداً هادياً ولم يبعثه جابياً”.
الوفاة المفاجئة أربكت البيت السفيانيّ بشدّة، فابنه، معاوية بن يزيد، تولّى الخلافة أربعين يوماً أو أقلّ من ذلك، ومات رافضاً تسمية أحد من بعده
وعن نهاية ولايته القصيرة، يروي الطبري، أنّ شوذب الخارجي (توفّي عام 720م) خرج في العراق، فبعث عمر إليه جيشاً، ولم يأمره بالقتال حتّى يناظر الخوارج. وتلك كانت حادثة استثنائية في تاريخ الصراع الطويل مع الخوارج في عهد بني أميّة. وبحسب الرواية، فإنّ الرجلين اللذين أرسلهما شوذب، سألا عمر عن ولاية العهد من بعده والتي تنصّ على يزيد بن عبدالملك (توفّي عام 724م)، فاحتجّ بأنّ غيره من ولّاه، أي الخليفة السابق. لكنّه وعدهم بالنظر بالأمر خلال ثلاثة أيام، أي بتولية آخر. فخشي بنو مروان أن يخرج ما عندهم وما في أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد بن عبدالملك، فدسّوا إليه من سقاه سمّاً، فلم يلبث أن مات.
إقرأ أيضاً: يزيد بن معاوية.. قوياً.. فظاً.. غليظاً..(2-4)
مع فشل المحاولة الإصلاحية للدولة الأموية، بدأت مسيرة الانحدار، إلى أن تولّى آخر خلفائها مروان بن محمد، وكان ذا همّة وحنكة وخبرة عسكرية لافتة. لكنّه ارتكب أخطاء سياسية سرّعت من إضعاف موقفه أمام سلسلة الثورات والاضطرابات، ومن أخطرها ثورة العبّاسيين الزاحفين من خراسان. الخطأ الأساسي هو التفريط بالعصبيّة القبلية التي استند إليها معاوية مؤسّس الدولة، أي القبائل اليمنية. وأقدم الخليفة مروان بن محمد على نقل عاصمته من دمشق إلى حرّان، ففقد ثقة أهل الشام، وهو ما أودى به صريعاً عام 750م، وانتهت معه الدولة الأمويّة في المشرق، بل انتهى دور العرب عموماً فيه، مع تسلّط غير العرب على مقاليد الأمور في الدولة العباسية، لا سيما عندما ضعف خلفاؤها. لكنّ الدولة الأموية ستنبعث من جديد في الغرب، في الأندلس، وستعيش أكثر ممّا عاشته الدولة الأموية في المشرق بثلاثة أضعاف، وسيكون لها دور حضاري أكبر بكثير.
الحلقة الرابعة: عبدالرحمن الداخل.. نجا من الموت فأسّس دولة.
لمتابعة الكاتب على X: