يزيد بن معاوية.. قوياً.. فظاً.. غليظاً..(2-4)

“كان معاوية وما يزال رجلاً تصعب معرفته. ومن الصعب كذلك التأكّد ممّا نعرفه حقّاً عنه، وحتّى فهم ما نعرفه أو نعتقد أنّنا نعرفه”، وذلك بحسب ما أورده المؤرّخ الأميركي ستيفن هافريز Stephen Humphreys في مقدّمة كتابه: “معاوية بن أبي سفيان من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية”. وهذا الغموض في شخصية معاوية، والإشارات المتناقضة الصادرة عنه، جعلت المسلمين يختلفون فيه وعليه.

 

 

إذا كان علماء أهل السنّة قد حاولوا تبرير أسباب الفتنة بين عليّ ومعاوية، ودحض شبهاتها، وأنّها قد طُويت بتنازل الحسن له، ولذلك عُرفوا بأهل الجماعة، لأنّهم رحّبوا بهذا الاجتماع أخيراً بعد الفتنة، إلّا أنّ القول بأنّ عليّاً اجتهد فله أجران، ومعاوية اجتهد فأخطأ فله أجر، بحسب ما جاء في الحديث النبوي الوارد أصلاً، في القضاء والاجتهاد الفقهي، لا في أمور السياسة، قد وضع عائقاً أمام الاعتبار من أحداث التاريخ. ولم ينجح هذا الاستدلال أو التعليل في وقف الفتنة المتوارثة عبر الأجيال، ولا إطفائها.

إذا كان الإجماع قد وقع بين المسلمين على قبحٍ ما ارتكبه يزيد بن معاوية في حكمه الدمويّ والقصير، إلّا أنّ كتابات ظهرت في العقود المنصرمة، تحاول صياغة سرديّة مختلفة عن يزيد بن معاوية، وتبرئته من كلّ شيء، بل الترضّي عنه بوصفه من كبار التابعين. وهذه المحاولات التي لم تتوقّف، لها علاقة بظروف معاصرة، لا دخل لها بالحقائق التاريخية. وهذا الإمام الذهبي المعروف بتأثّره بمنهج السلف، وبابن تيميّة، يعتبر أنّه مع مرور الوقت بات ممكناً قراءة الأحداث بطريقة موضوعية، وهي الترجمة المعاصرة لما يفسّره من تعصّب الفريقين، إذ كان خَلْف معاوية خلق كثير يحبّونه ويتغالَوْن فيه ويفضّلونه، إمّا قد ملكهم بالكرم والحِلم والعطاء، وإمّا قد وُلدوا فِي الشام على حبّه وتربّى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفُضلاء، حاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النَّصْب (بُغض آل البيت). كما قد نشأ جيش عليّ ورعيّته، إلّا الخوارج منهم، على حبّه، والقيام معه، وبُغض من بغى عليه، والتبرّي منهم، وغلا منهم فيه. فما معنى سحب هذه الوقائع، وتحديثها، ومعايشتها، كأنّها جرت البارحة، لا من 1400 سنة؟ وما هو المغزى السياسي من التجييش الطائفي الآن؟

كان معاوية وما يزال رجلاً تصعب معرفته. ومن الصعب كذلك التأكّد ممّا نعرفه حقّاً عنه، وحتّى فهم ما نعرفه أو نعتقد أنّنا نعرفه

معاوية يمتصّ الغضب

لقد عُرف معاوية بن أبي سفيان بأمرين: الحِلم والعطاء. وبهذين الأمرين، تمكّن من تهدئة النفوس، وامتصاص غضب الخصوم، ومنهم من قاتله في صفّين إلى جانب عليّ بن أبي طالب. لكن من المآخذ عليه خلال ولايته الطويلة والممتدّة لعشرين سنة، والتي كانت حافلة بتوسيع دولة بني أمية شرقاً وغرباً، قتله حُجر بن عديّ وأصحابه، وهو من قادة الفتح في الشام، وممّن شهد معركة القادسية في العراق، وممّن حاربوا إلى جانب عليّ في معركتَي الجمل وصفّين بسبب معارضته له، والعمل على تولية ابنه يزيد، ليكون خليفة من بعده، وهو ليس أفضل من أبناء الصحابة المشهورين، بل ليس من أصلحهم لتولّي هذا المنصب الخطير، علماً أنّ شخصيّته على طرف نقيض من شخصية أبيه. ويلخّص الذهبي شخصيّة يزيد، قائلاً إنّه كان قويّاً، شجاعاً، ذا رأي، وحزمٍ، وفطنة، وفصاحة، وله شعر جيّد، وكان ناصبيّاً (يُبغض آل البيت)، فظّاً، غليظاً، جَلْفاً، يتناول المُسكِر، ويفعل المنكر.

اختلفت روايات الطبريّ في تحديد الكيفية التي قرّر فيها معاوية استخلاف ابنه يزيد وليّاً للعهد، وهل كانت نصيحة من المغيرة بن شعبة (توفّي عام 670م) واليه على الكوفة أم من عند نفسه؟ لكنّ قراءة الذهبي للحدث توحي أنّ السياق يشير إلى تجهيز مسبق لصورة يزيد أمام الناس ليكون ذا قبول لديهم من خلال إرساله على رأس الجيش لفتح القسطنطينية، وفيها حديث نبوي يمدح قائد الجيش الغازي، ونصّه: “أَوَّل جيش يغزو القسطنطينية مغفور له”. وكان “معه من الكبار صاحب رسول الله أبو أيّوب الأنصاري (توفّي عام 672م)”. وصادف في العام نفسه 670م، موت الحسن بن علي، فانزاح عائق من أمام معاوية، وتمهّدت الطريق ليزيد. ووفق تعبير الذهبي: “اتّفق موت ابن بنت رسول الله الحسن بن علي، وحصول هذه الغزوة لابن معاوية، فطمع أبوه، فقويت نفسه على أن يجعله وليّ العهد من بعده”.

عُرف معاوية بن أبي سفيان بأمرين: الحِلم والعطاء. وبهذين الأمرين، تمكّن من تهدئة النفوس، وامتصاص غضب الخصوم

اختلاف النّاس على يزيد

جاء في فتاوى ابن تيمية (توفّي عام 1328م) أنّه افترق الناس في يزيد بن معاوية على ثلاث فِرَق: طَرفَان ووسط. فمنهم من تطرّف فقال إنّه كان كافراً منافقاً، وأنّه سعى في قتل الحسين انتقاماً لجدّه عتبة، وأخي جدّه شيبة، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممّن سقطوا في معركة بدر وغيرها بيد عليّ بن أبي طالب وغيره. ومنهم من تطرّف وظنّ أنّه كان رجلاً صالحاً وإماماً عدلاً، وأنّه كان من الصحابة الذين وُلدوا في عهد النبيّ فحمله على يديه، وربّما فضّله بعضهم على أبي بكر وعمر وربّما جعله بعضهم نبيّاً. أمّا القول الوسط بحسب ابن تيمية فهو أنّه كان من ملوك المسلمين وله حسنات وسيّئات، ولم يولد إلّا في خلافة عثمان. ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفُعل ما فُعل بأهل الحرّة (أهل المدينة) ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين. وهذا قول عامّة أهل العقل والعلم والسنّة والجماعة.

ثُمَّ افترق هؤلاء على ثلاث فِرَق: فرقة لعنته، وفرقة أحبّته، وفرقة لا تحبّه ولا تسبّه، والموقف الأخير هو المنصوص عن الإمام أحمد بن حنبل (855م)، فقد سأله ابنه صالح: قلتُ لأبي إنّ قوماً يقولون إنّهم يحبّون يزيد. فقال الإمام أحمد: يا بنيّ. وهل يحبّ يزيد أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبتِ فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بنيّ ومتى رأيتَ أباك يلعن أحداً. وفي رسالة لابن تيميّة تحت عنوان: سؤال في يزيد بن معاوية، يجيب موضحاً أموراً إضافية، فيقول إنّ معاوية سمّى ابنه يزيد على اسم أخيه يزيد الذي مات في طاعون الشام، وكان في عزّ شبابه. ويزيد بن أبي سفيان بحسب تعبيره، كان من خيار المسلمين، وهو رجل صالح، وكان عند المسلمين أفضل من أبيه، أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. لكنّه يقول إنّ يزيد لم يأمر بقتل الحسين بل عبيد الله بن زياد (قُتل عام 686م) واليه على الكوفة. لكنّ هذه الخطوة تحوّلت إلى مأساة. فيزيد بن معاوية مكث في الحكم ثلاث سنوات، في السنة الأولى، قتل الحسين، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها ثلاثة أيام، وفي السنة الثالثة غزا الكعبة .

إقرأ أيضاً: معاوية بن أبي سفيان.. طموح ودهاء (1-4)

ويورد ابن حزم الأندلسي (توفّي عام 1064م) في كتابه “أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم” ما جرى بعد كربلاء في المدينة ومكّة: فقد أرسل يزيد الجيوش إلى المدينة، حَرَم رسول الله، وإلى مكّة، حَرَم الله تعالى، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحَرّة. وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخرومه، لأنّ أفاضل المسلمين وبقيّة الصحابة وخيار المسلمين من جلّة التابعين قُتلوا جهراً ظلماً في الحرب، وصبراً، أي قتلاً بعد انتهاء الحرب. لم تُصلَ جماعة في مسجد النبي، ولا كان فيه أحد، حاشا سعيد بن المسيّب (توفّي عام 715م)، وهو من كبار التابعين، أي من الذين لقوا كبار الصحابة، فإنّه لم يفارق المسجد. ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفّان ومروان بن الحكم عند قائد الحملة مسلم بن عقبة المُرّي بأنّه مجنون لقتله. وكان الناس يسمّون القائد بغير اسمه (مجرم أو مسرف لأنّه أسرف في القتل). ويضيف: أكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنّهم عبيد له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق. وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن وسنّة رسول الله، فأمر بقتله فضُرب عنقه. وبحسب تعبير ابن حزم: هتك مسرف أو مجرم الإسلام هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستخفّ بأصحاب رسول الله، ومُدّت الأيدي إليهم وانتُهبت دورهم، وانتقل هؤلاء إلى مكّة شرّفها الله تعالى، فحوصرت، ورُمي البيت (الكعبة) بحجارة المنجنيق.

الحلقة الثالثة: عبدالملك باعث دولة وعمر مُصلِح مسموم.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

كواليس مفاوضات أميركا: إيران أولاً..

بين ازدحام الساحة السياسية بالعناوين الإشكالية، لا شكّ أنّ “تطبيع” العلاقات بين لبنان وإسرائيل واحدة من أهمّ القضايا التي شغلت الكواليس في الفترة الماضية. قبل…

“أمن العهد”: حدود و”تحرير” وانتخابات

بعد إقرار سلسلة التعيينات الأمنيّة والعسكريّة عُيّن، وفق معلومات “أساس”، العميد نقولا تابت ليحلّ مكان العميد في الجيش إدغار لاوندس، بعد تعيينه مديراً عامّاً لأمن…

معاوية بن أبي سفيان.. طموح ودهاء (1-4)

الدولة الأمويّة “عربيّة أعرابيّة” بحسب تعبير الجاحظ (توفي عام 870م). وهي الدولة الكبرى في تاريخ الإسلام، إذ تمتدّ من حدود الصين إلى حدود فرنسا. كان…

التّمايز الأميركيّ – الفرنسيّ من لبنان… وتقاطعه

نقطتان بارزتان وردتا على لسان مورغان أورتاغوس في مقابلتها التلفزيونية على “الجديد”، توقّفت عندهما أوساط دبلوماسية أوروبية، وهما: – تجنّب الموفدة الأميركية الغوص في تفاصيل…