كثيرون قتلوا ابن عمّي محمود. آخرهم إسرائيل على أرض جنوب لبنان، حيث استشهد بطلاً. بعدما ظلّ يقاتل حتّى النفس الأخير.
فقد عثروا يوم الثلاثاء 18 شباط على جثمانه في حولا. على بعد كيلومترات قليلة من رب ثلاثين، بلدتنا. التي كنّا نمضي فيها بعض الأوقات معاً، بين معارك الحياة الكثيرة.
لكن قبل إسرائيل، سرقه كثيرون. وقتله كثيرون. سأحاول أن أعدّدهم في هذه العُجالة الحزينة.
كان عمره 14 عاماً فقط في عام 2009. حين أخبرني أنّه ترك مدرسته، وذهب إلى دورة تدريبية مع “الحزب”. كان سعيداً بالمغامرة. بحمل السلاح. بالحياة العسكرية التي قد يرغب فيها أيّ طفل في عمره. بعبوره السريع، والسرّيّ، من الطفولة إلى ما بعد الرجولة، دون المرور بالمراهقة أو الشباب.
لكنّه أخبرني يومها حكايةً تقشعرّ لها الأبدان. إنّه في الليلة الأولى من الدورة، طلب منهم المسؤول أن يحفروا قبورهم بأيديهم، وأن يمضي كلّ طفلٍ منهم الليلة فيه… ثمّ راح يضحك، على عادته. وصرنا نتمازح حول الأفكار التي تخطر لطفلٍ، وهو يمضي ليلته الأولى في قبره، وحيداً، تمهيداً لبدء حياته العسكرية.
كانت حكاية مرعبة. لكنّني بعد تفكير طويل، طوال 16 عاماً، تذكّرتُها أمس، ممزوجة بالدموع، وأنا أحاول أن أطرد من رأسي أسئلة مُبكية: كيف لفظَ محمود أنفاسه الأخيرة في حولا؟ ما الذي دار في خاطر هذا الرجل الذي ظلّ طفلاً في ذاكرتي؟ كم بقيَ جثمانه في العراء، لا تكلّلهُ سوى الطلقات التي ظلّ رفاقه يطلقونها فوق جبينه، كي لا تسقط دماؤه هدراً.
كثيرون قتلوا محمود. منهم الدولة التي سمحت له بترك المدرسة ولم تسأله إلى أين يذهب. والتي سمحت له أن يذهب إلى سوريا ولم تسأله إلى أين يذهب
وماذا يبقى من الرّجال؟
حين أقول “محمود”، وهو سمِّيَ تيمّناً بوالدي محمود، لا أتذكّر غير الطفل الذي كانه. الطفل الذي كان يحبّ الرياضة. ويريد أن يصير مصارعاً كوالده. أو بطلاً في فنون القتال كأخيه. لكنّه تجاوز الاثنين، وصار مقاتلاً، وشهيداً.
أكبره بـ11 عاماً. لذا ظلّ طفلاً في مخيّلتي.
كان حنوناً. وهادئاً. مُحبّاً. ودوداً… ولا أكتب ذلك تحبّباً. محمود كان من هذه الطينة. بل وأحسب أنّ معظم المقاتلين الذين استشهدوا على الخطوط الأمامية، كانوا مثل محمود. حالمين. هادئين. يعرفون ماذا يريدون. فآلافٌ لم يلتحقوا بالجبهة. ومن ذهبوا كانوا متيقّنين أن لا عودة. أنّها معركة قاسية جدّاً. على الرغم من ذلك مشوا إليها رافعين رؤوسهم…
حين طلب منه المسؤول عنه الانقطاع عن زيارتي أو محادثتي، جاء إليّ ضاحكاً ليخبرني: “بدنا نصير نلتقي بالسرّ يا دمّي”. إلى هذه الدرجة كان صادقاً.
وماذا يبقى من الرجال غير هذه اللحظات؟ حين يتمرّدون من أجل لحظات حبّ؟ حين “يرتكبون” الصواب، كلّما كانت الأوامر أن ينفّذوا “الأخطاء”؟
كان يحبّ هذا النداء: “يا دمّي”. كأنّه يريد أن يقول إنّ رابط الدم بيننا أقوى من الأوامر الحزبية. وحين أيقنتُ أنّه استشهد، تذكّرتُ هذه الجملة. وسرت قشعريرة طويلة في مسامّي: للمرّة الأولى أشعر أنّ هذه الدماء التي سالت، هي دمائي أيضاً.
محاولة أخيرة… والجيش
طلبوا منه قطع علاقته بي حين عرفوا أنّني أحرّضه على ترك صفوف “الحزب”، والانضمام إلى الجيش اللبناني. هو وصديقه المقرّب. وكانت حجّتي أنّ الجيش أيضاً مهمّته حماية لبنان. وراتبه قريب من راتب “الحزب”.
الضغوط عليه وعلى العائلة أثمرت عودته إلى الصفوف، والانقطاع عن العلاقة “العلنية” بي.
كان ذلك في منتصف الحرب السورية. كنّا نتناقش كثيراً. أحاول إقناعه بأنّ نظام الأسد “يزيدياً” وليس “حسينيّاً”. وأنّ القتال إلى جانبه ليس مقدّساً. وأنّ انضمامه إلى الجيش يساعده على إكمال الدراسة، لعلّه يصير ضابطاً لاحقاً.
حين أقول “محمود”، وهو سمِّيَ تيمّناً بوالدي محمود، لا أتذكّر غير الطفل الذي كانه. الطفل الذي كان يحبّ الرياضة
لكنّ الذين أخرجوه من المدرسة، إلى قبره الأوّل، منعوه. فسقط صديقه هناك. قربه. وحزن حزناً شديداً عليه. وبات مصرّاً على الانتقام له.
الأيّام الأخيرة…
حين أخبرتني عمّتي أنّهم “عثروا على محمود”، كرّت دمعة سريعة، ومؤجّلة، من عينيّ.
خلال الحرب كنتُ أتّصل بوالدته، التي كنتُ المفضّل لديها بين أخوتي، وكنتُ وما أزال أحبّها، لأسألها: “كيف الشباب؟”، في ختام الحديث. فتجيبني: “الحمد لله بخير”.
هكذا كما لو أنّنا نتبادل أسراراً عسكرية خطيرة. أحياناً لا أجرؤ على طرح سؤال آخر. وأحياناً أسأل: “عم تحكي معهم؟”. لأطمئنّ أكثر. فتقول: “إي. إن شاء الله أنت وإيّاهم بخير”. وهي، حين تشملني بدعائها، مع ابنَيها، أحدهما محمود، أطمئنّ إلى نبرة صوتها. وحين نمزح وتضحك، أعرف أنّها مرتاحة، فأطمئنّ أكثر.
في الأيّام الأخيرة من الحرب، “انقطع الاتّصال بالشباب”، قالت عمّتي. فعلمتُ حينها أنّ رسالةً وصلت “من فوق”، تحضّر العائلة لـ”الخبر”. لكنّني قرّرتُ التجاهل. واحتفظتُ بشيءٍ من الأمل.
من قتل محمود؟
كثيرون قتلوا محمود.
منهم الدولة التي سمحت له بترك المدرسة ولم تسأله إلى أين يذهب. والتي سمحت له أن يذهب إلى سوريا ولم تسأله إلى أين يذهب.
وقتلته التركيبة المذهبية في لبنان، التي اعتبرت محمود شأناً شيعياً لا علاقة لأحد به غير قادة الشيعة.
وقتله النظام الإقليمي، الذي اعتبر محمود ورفاقه وأبناء جيله “شأناً إيرانياً” لا يريد أحدٌ التدخّل فيه.
وقتله النظام اللبناني، الذي لم يستطِع أن يحمي الجنوب، وأهله، منذ أربعينيات القرن الماضي. وتركهم فريسةً سهلةً لأيّ تنظيم عسكريّ يوظّفهم في مشاريع عابرة للدول والقارّات، بحجّة مساعدتهم في الدفاع عن أرضهم.
قتله أيضاً الاقتصاد اللبناني ورجال الأعمال الشيعة الذين يدفعون الخمس والزكاة لـ”الحزب” و”الحركة” لا لفقراء الشيعة. مقابل أن يجلسوا في الصفوف الأمامية في احتفالات الرياء والمداهنة. بدل أن يبنوا مصنعاً أو جامعة أو مكتبة أو مستشفى في الجنوب أو البقاع.
كثيرون قتلوا ابن عمّي محمود. آخرهم إسرائيل على أرض جنوب لبنان، حيث استشهد بطلاً. بعدما ظلّ يقاتل حتّى النفس الأخير
وقتله محبّوه، الذين باركوا له انضمامه إلى حزب يقاتل في أربع جهات الأرض باسم الطائفة والله. مرّة في سوريا، ومرّة في الجنوب “لإسناد غزّة”.
وآخر القَتَلَة كانت إسرائيل. آخرهم فقط.
وإذا كان من عزاء لمحبّيه، فهو أنّه ارتقى على أرض جنوب لبنان. قرب ضيعته. ونال شرف الشهادة بوجه الدولة الأكثر إجراماً في التاريخ الحديث.
إقرأ أيضاً: طريق المطار: الرّواية الكاملة… للانقلاب الآتي
أكتب هذه السطور، قبل أن ينزل محمود إلى قبره الأخير. وما تزال في بالي حكايته عن ليلته الأولى في قبر حفره بيديه، حين كان عمره 14 عاماً فقط.
هُنا اختصار الحكاية: أخذوه من المدرسة طفلاً، وأجبروه على أن يحفر قبره بيديه.
لمتابعة الكاتب على X: