إيران تترنّح: تغيير السّلوك أو سقوط النّظام

هل وصلت الثورة الإيرانية إلى نهاية الطريق في الذكرى الـ46 عاماً لتفجيرها على يد الإمام الخميني؟ ثمة مؤشرات على شيخوخة مبكرة تصيب النظام الحالي، كنتيجة مباشرة للمغامرات العسكرية خارج الحدود والتي انتهت عملياً مطلع كانون الثاني عام 2020 باغتيال واشنطن لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، ثم ظهرت الآثار الكارثية خلال حروب غزة ولبنان وسوريا عقب طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، وذلك إضافة إلى تفاقم التململ من سياسات النظام في الداخل، وعلى جميع الصُعُد، والذي تجلّى في انتفاضات شعبية متعاقبة هزّت السردية الأيديولوجية الحاكمة بشدة.

 

تململ داخلي وضغط خارجي

تلتقي العوامل الضاغطة على النظام الإيراني داخلياً وخارجياً للمرة الأولى، وبشكل غير مسبوق. وتمرّ ذكرى انطلاق الثورة هذا العام في توقيت بالغ الحرج، مع ازدياد الخوف من انتقال الحرب الإسرائيلية- الأميركية من الأذرع في المنطقة إلى القلب في الجمهورية الإسلامية نفسها، وهذه كانت استراتيجية بنيامين نتنياهو منذ البداية.

واجهت إيران في العقود الأخيرة مسارات عديدة للتغيير، وقد عبّرت عنها احتجاجات شعبية في أعوام 1999 و2009 و2017 و2019 و2022. ولم تكتفِ هذه الاحتجاجات باستهداف شخص خامنئي، بل تعدّته إلى النظام القائم. وفي السنوات الثماني الأخيرة ارتفعت وتيرة الأزمات، حيث واجه النظام كلّ سنتين تقريباً أزمة داخلية متعددة الأوجه والمطالب، تبدأ بالتذمر من المآزق الاقتصادية بسبب العقوبات الخارجية ولا تنتهي بالحرّية والديمقراطية والتعدّدية، لكنّها مرتبطة بمجريات الإقليم أيضاً، وإنفاق النظام عشرات المليارات على مشاريعها السياسية وميليشياتها العسكرية خارج الحدود.

لم يكسب الإيرانيون العاديون من هذه المغامرات والتدخلات في شؤون دول عربية كلبنان والعراق وسوريا واليمن، من ضمن سياسات التوسّع الإيرانية، سوى السمعة السيئة خارجياً والعاقبة الضارة داخلياً بسبب انتشار الإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة.

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استغلّت إيران الفراغ السياسي لتعزيز نفوذها عبر دعم الأحزاب والميليشيات الشيعية

غذّت هذه الأعمال، بالإضافة إلى إضعاف الحكومات المحلّية، التوتّرات الطائفية والدينية في الشرق الأوسط، وهو ما صار يهدّد الأمن الإقليمي. وبالمقابل، انعكست التدخلات تضييقاً دوليّاً على “الجمهورية الإسلامية” وسياساتها.

لكن في الأشهر المنصرمة، باتت الحرب التي تخوضها تلك الأذرع، مصدر خطر داهم على الجمهورية الإسلامية، وهو ما اضطرها مرتين إلى قصف إسرائيل بالصواريخ والمسيّرات، رداً على اغتيال جنرالات إيرانيين وزعماء فلسطينيين ولبنانيين، لا سيما جوهرة التاج الإيراني، قائد “حزب الله”، السيّد حسن نصر الله، الذي كان محور المحور، ومركز الثقل فيه، والناطق الرسمي باسمه في المنطقة العربية.

لعبت إيران عمليّاً دوراً محوريّاً في تشكيل المشهد السياسي والثقافي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في لبنان، والعراق، وسوريا واليمن. من خلال أدواتها الناعمة والصلبة، سعت طهران إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، من خلال أذرعها على مدى عقود، مستغلّة الفرص التي أتاحتها التحوّلات السياسية والأزمات الداخلية في هذه الدول.

لبنان: “الحزب” الأداة الأقوى للنّفوذ الإيرانيّ

يًعتبر “الحزب” الذراع الأقوى لإيران في لبنان والمنطقة، إذ تمّ تأسيسه عام 1982 بدعم مباشر من طهران لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك. وتحت هذا الشعار راح يتطوّر “الحزب” من مقاومة مسلحة إلى قوّة سياسية وعسكرية كبرى، مدعومة بالتمويل العسكري والسياسي الإيراني، حتى صار “الحزب” يمتلك ترسانة أسلحة وصواريخ ضخمة، ويقوم بدور رئيسي في الحفاظ على النفوذ الإيراني في المنطقة، من خلال إرسال المقاتلين والخبراء إلى مسارح العمليات كلما اقتضى الأمر بذلك.

إذا كانت البداية في مطلع التسعينات، خلال الحرب البوسنية، فقد انتقلت بشكل أقل ظهوراً في السودان، مع ثورة الإنقاذ في السودان، واشتداد المعارك مع التمرد العسكري في الجنوب قبل الانفصال، فإنّ الهجوم على الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001 على يد تنظيم القاعدة، أفسح المجال واسعاً لإيران و”حزب الله” لتوسيع نطاق أعماله. فكان التدخل في العراق عقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003، بذريعة مكافحة الإرهاب البعثي من فلول النظام السابق، ثم الجماعات السلفية المتشددة.

يعتمد مستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة على قدرتها على التكيّف مع هذه التحدّيات واستمرار دعم حلفائها في مواجهة الضغوط المتزايدة

تبع ذلك، التدخل في سوريا، مع انتقال الربيع العربي إليها في آذار 2011. وكانت الذريعة تتعزز مع ظهور جماعة جهادية جديدة، إلى أن كانت “داعش” في سوريا والعراق معاً. لكن الانحياز إلى الحوثيين في اليمن، لم يكن له أي حجة معقولة، سوى تهديد الأمن القومي السعودي.

العراق: من الاحتلال إلى الهيمنة السّياسيّة

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استغلّت إيران الفراغ السياسي لتعزيز نفوذها عبر دعم الأحزاب والميليشيات الشيعية، من أجنحة حزب الدعوة المتصارعة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية إلى ميليشات الحشد الشعبي، والتي تأسست عام 2014 لمواجهة زحف داعش من سوريا إلى العراق.

في الأثناء أصبح العراق سوقاً رئيسيّاً للصادرات الإيرانية. وصارت بغداد تعتمد على طهران في إمدادات الغاز والكهرباء. وفي هذا السياق، عملت إيران أيضاً على منع قيام حكومة معادية لها في العراق، فأصبحت لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي العراقي. وعلى المستوى الثقافي، عزّزت إيران وجودها عبر دعم المراجع الدينية الشيعية وإنشاء المؤسّسات التعليمية، معمّقةً الانقسامات الطائفية في العراق.

سوريا: من دعم النّظام إلى شريان الحياة

كانت سوريا حليفاً استراتيجيّاً لإيران منذ بداية الثورة، وتعزّز هذا التحالف بالدعم الذي قدّمة نظام حافظ الأسد خلال الحرب العراقية الإيرانية، لكنّ التدخّل الإيراني تصاعد بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011. قدّمت إيران دعماً عسكريّاً واقتصادياً لنظام بشار الأسد، بما في ذلك إرسال قوّات من “الحرس الثوري” ةتشكيل “الميليشيات الشيعية”.

إيران

سعت طهران إلى إنشاء بنية تحتيّة عسكرية واقتصادية في سوريا، مثل خطوط أنابيب الغاز والسكك الحديدية وشركات الهاتف الخلوي لتعزيز نفوذها في المنطقة. وعلى الصعيد الثقافي، عزّزت إيران وجودها عبر نشر “المذهب الشيعي” ودعم المؤسّسات الدينية والتعليمية، وهو ما ساهم في تغيير التركيبة الثقافية لبعض المناطق السورية.

نجحت إيران في استخدام مزيج معقّد من الأدوات الجيوسياسية والثقافية لتوسيع نفوذها في لبنان وسوريا والعراق واليمن

اليمن: الحوثيّون وكلاء إيرانيّون

في اليمن، تدعم إيران جماعة أنصار الله (الحوثيين)، الذين يسيطرون على أجزاء كبيرة من البلاد منذ عام 2014. وقد قدّمت طهران الدعم العسكري واللوجستي للحوثيين، بما في ذلك الصواريخ البالستية والتدريب العسكري، في الصراع الذي دار رحاه للهيمنة على اليمن كله، من الجبل إلى البحر، فتوسّع نفوذ إيران في جنوب شبه الجزيرة العربية.

أمّا على المستوى الثقافي، فقد عملت إيران وما زالت تعمل على نشر أيديولوجية ولاية الفقيه في بيئة زيدية كانت لا تتقبلها أساساً  في اليمن، متسبّبة بتحوّلات دينية واجتماعية في المجتمع اليمني.

هل اقتربت النّهاية؟

نجحت إيران في استخدام مزيج معقّد من الأدوات الجيوسياسية والثقافية لتوسيع نفوذها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، مستفيدة من الأوضاع السياسية المضطربة والصراعات الطائفية. ومع ذلك، يواجه هذا النفوذ تحدّيات متزايدة بسبب التغيّرات في غزة ولبنان والعراق واليمن والضغوط الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى ردود الفعل المحلّية في هذه البلاد ضدّ التدخّل الخارجي.

عكس دور إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن استراتيجية طهران لتصبح قوّة إقليمية مهيمنة. فمن خلال دعم الحلفاء وتعزيز النفوذ الثقافي، تمكّنت طهران من تحقيق مكاسب كبيرة، لكنّها الآن تواجه تحدّيات هائلة قد تعيق طموحاتها المستقبلية، واحتمال نهاية “النظام السياسي للمرشد”.

إقرأ أيضاً: “الحزب” والحركة: توأمة واقعيّة وانصهار مستحيل

يعتمد مستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة على قدرتها على التكيّف مع هذه التحدّيات واستمرار دعم حلفائها في مواجهة الضغوط المتزايدة. وهذا بات شبه مستحيل مقارنة مع احتمال “سقوط نظامها السياسي الديني” بسبب تصاعد التوتّرات الداخلية وانعقادها على تناقضات وضعها الخارجي.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

ترامب وبايدن: إدارتان تتقاسمان مآزق المنطقة

اختبرنا في وقت قصير جدّاً حكم الديمقراطيين في أميركا، ولاحقاً حكم الجمهوريين، فما هو الفارق بينهما؟ وكيف تعاطى كلٌّ منهما مع أزمات المنطقة؟   الإدارة…

نتنياهو يُطوّع القضاء: إسرائيل بقبضة التطرّف..

لا يُبدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اهتماماً بالاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في تل أبيب والقدس على إقالة رئيس الشاباك رونين بار والمستشارة القضائية، والتنصّل من…

أكراد إيران: النوروز “عيد” الهويّة..

شكّلت مناسبة عيد النوروز “اليوم الجديد” أو بداية السنة الإيرانية الجديدة (الهجرية الشمسية 1404)، اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام الإيراني على تلمّس التحدّيات والمخاطر التي…

ثُمانية بن سلمان على خطى المؤسّس: نفعل فوق ما فعلوا

ثماني سنوات. كانت ملء العين والخاطر. لا يُماثل محمّد بن سلمان غيره في كلّ أحواله. وعلى سجيّة من يطلب المجد يصبر عليه. صبر الرجل واجتهد…