أسباب العداوة بين ولاية الفقيه ومشروع رفيق الحريري

يا واضع التاريخ تحت سريره …  يا أيّها المُتشاوف المغرورُ

 يا هادئ الأعصاب إنّك ثابتٌ …   وأنا على ذاتي أدور أدورُ

 فرق كبير بيننا يا سيّدي …        فأنا محافظة وأنت جسورُ

 وأنا مقيّدة وأنت تطيرُ …            وأنا محجّبة وأنت بصير

 فرق كبير بيننا يا سيّدي …      فأنا الحضارةُ والطُّغاة ذكورُ

(سعاد الصباح)

 

بليغة تلك القصيدة القصيرة التي قيل فيها الكثير من الأقاويل بعدما نظمتها سعاد الصباح، لكنّها بوضوح تشرح الفرق بين أمرين يشبهان بعض الشيء ما هو آتٍ في المقالة. لكنّني معجب بشكل استثنائي بالكلمات وبذاك الإحساس الاستثنائي الذي طبع الأغنية عندما سمعتها لأوّل مرّة بصوت نجاة الصغيرة. ولمن يريد يجدها على وسائل التواصل الاجتماعي.

ليس جديداً أن تُكال الشتائم لي بعد كلّ مقابلة أو مقالة أنشرها من دون مراعاة لوقع الكلام، فأنا مع أحمد فؤاد نجم أردّد دائماً: “مرّ الكلام ذي الحسام يقطع مكان ما يمرّ، أمّا المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ…”. وأنا عالم أنّ كلامي هذا أفقدني، لحسن حظّي، حظوات ومناصب كانت ممكنة لمن يتقن الكلام المعسول، لكنّني ردّدت مع محمود درويش: “يوم كانت كلماتي ثورة، كنت صديقاً للزلازل، يوم كانت كلماتي حنظلاً، كنت صديق المتفائل، حين صارت كلماتي عسلاً، غطّى الذباب شفتي”. كانت حفلة الشتائم الأخيرة بخصوص اتّهامي علي خامنئي بإصدار فتوى اغتيال رفيق الحريري، وأنا مصرّ على أقوالي.

 استشهاد الحريري كان نواة المقاومة التي صمدت أمام الاحتلال الإيراني للبنان، وتلك التي أسقطت منظومة القتل والفساد في سوريا، والبقيّة آتية

أمّا بعد، لم يغفر مشروع ولاية الفقيه لرفيق الحريري جريمة اتّفاق الطائف التي أنهت، ولو مؤقّتاً، حربنا الطويلة المجنونة المازوشية المغرقة حتى الجنون في تعذيب الذات. فعشيّة اتّفاق الطائف خرج قائد مشروع الوليّ الفقيه المحلّي، وهو الآن في دنيا الحقّ، ليرفض الاتّفاق لأنّه “مؤامرة إسرائيلية تريد استمرار سيطرة المارونية السياسية على لبنان”، في حين أنّ الرافض الآخر يومها، ولسبب عكسيّ، كان ميشال عون، بحجّة أنّ الاتّفاق “يسرق صلاحيّات رئيس الجمهورية الماروني”. لكنّ أهمّ سبب لرفض الأخير هو أنّه لم يصل به الاتّفاق إلى سدّة الرئاسة. بالنهاية، حتّى أشدّ الأعداء عداوة، قد تتقاطع خياراتهم على شيء مشترك، حتى وإن كان لأسباب متناقضة. من هنا يجب أن لا نستغرب اتّفاق كنيسة مار مخايل الذي جمع النقيضين النظريَّين، فلكلّ من الطرفين وطره الذي سعى لنيله، حتى لو كان الثمن دمار كلّ شيء. لكنّ هذا الأمر أصبح وكأنّه من الماضي السحيق، أو ذاك النوع الذي يشكّل “ذاكرة للنسيان”.

العدوّ اللّدود

لكنّ ذلك ليس بيت القصيد، فحزب الوليّ الفقيه كان يراهن على استمرار الفوضى والموت والدمار في لبنان أوّلاً، وعلى ثباته الإيماني العقائدي على التنظيم والصبر في الشدائد ثانياً، لأنّهما سيفتحان الباب له واسعاً أمام تمديد سلطة الوليّ على أوسع مساحة من الأرض. ولمن لا يعرف، يعتبر منظّرو هذه العقيدة أنّ دور الوليّ الفقيه، وهو وكيل المهديّ المنتظر، تعميم سلطته التي تمثّل العدل الإلهي المطلق، وذلك لتشجيع العودة المنتظرة من الغيبة الكبرى…

 لم يغفر مشروع ولاية الفقيه لرفيق الحريري جريمة اتّفاق الطائف التي أنهت، ولو مؤقّتاً، حربنا الطويلة

من هنا، كان وقف الحرب بالنسبة لـ”الحزب” مؤامرة خبيثة لإعاقة مساره لتثبيت السلطة فوق أطلال الحجر وأجساد البشر. فلا إمكانية لمشروع كارثي أسطوري أن يزرع بذوره إلا فوق أرض محروقة خالية من الأمل في النفوس ومن النور في العقول التي تبحث عن الحلول من خلال السؤال عن الحقيقة. والمصيبة الكبرى هي أنّ من يحمل هذا المشروع يعتقد أنّه يمثّل أعلى مستوى من القداسة، أو أنّه وحي مقدّس يحمل الخير للبشر، ولمن لا يعرف، فإنّ النازيّة كانت أيضاً تحمل مشروعاً لإنقاذ البشرية.

رفيق الحريري

لذلك وضع حزب الوليّ الفقيه رفيق الحريري منذ البداية موضع العدوّ اللدود لمشروعه. يقيني هو أنّ المشروع المضادّ الذي كان الحريري واجهته، والذي صادف انطلاقه سنة 1979 مع حلول كارثة الثورة الخمينيّة على إيران وعلى المنطقة جمعاء، وُضع تحت مجهر حزب ولاية الفقيه منذ بدايات النشاط غير العلني لـ”الحزب” بعد الاجتياح الإسرائيلي. يومها بدأ رفيق الحريري العمل على سحب الركام، في ورشة لإعادة بعض معالم المدن والمدنيّة إلى لبنان، في حين أنّ حرب 1982 هي التي صنعت فرصة إنشاء حزب ولاية الفقيه على حساب الفراغ الذي خلّفته منظمة التحرير الفلسطينية، وهزيمة القوات السورية في لبنان، والاستسلام العربي للأمر الواقع.

 وضع حزب الوليّ الفقيه رفيق الحريري منذ البداية موضع العدوّ اللدود لمشروعه

كانت المواجهة منطقية منذ البداية بين مشروعين، وربّما يمكن وصفهما بالمغامرتين الخطرتين. الأولى تستند إلى مضاعفة الشدائد والفوضى للإيحاء بأنّ الأمل متاح فقط من خلال الخضوع لهيمنة الأساطير العقائدية التي تسعى للمواجهة الدموية بين الخير والشرّ في معركة تنتهي بنهاية الأزمنة. أمّا الثانية فتستند إلى بناء فسحات للأمل، وأنّ الأمن والأمان متاحان من خلال العلم وبناء الصروح وتوسيع إمكانية الرزق، فنهاية الأزمنة ليست بيد البشر، إلّا إذا سعوا لها من خلال التدمير الذاتي. يقع الإشكال عندما ندرك أنّ المشروع الأوّل يحتاج إلى أعداء ليستمرّ في تماسكه، وبالتالي تسويغ الموت والتضحية المستمرّة بالذات وبالآخر، وأمّا الثاني فيحتاج إلى مراكمة الصداقات، وإن لم يكن ممكناً تحويل الجميع إلى أصدقاء، فلا مانع من اختراع تسويات، أو حتى الاستناد إلى هدنة تربط النزاع. أمل المشروع الذي كان رفيق الحريري واجِهته يستند إلى أنّ استطالة مدّة الهدنة والتسويات قد تفسح المجال للبناء المدني والإنساني وتوسيع الأرزاق، فتضيق مساحات عمل المشروع الآخر، المستند إلى ضيق الحال والفقر وتضاؤل الأمل وندرة الفرص.

المواجهة المستمرّة

اتّفاق الطائف والهدنة التي أتاحها، ثمّ فرصة السلام العابرة في مؤتمر مدريد، خاض خلالها رفيق الحريري مغامرة البناء الخطرة، بشجونها وشؤونها، وكلّ ما اعتراها من شوائب وضعت صاحبها في دائرة الاتّهام والشكّ، وما يزال ذاك المشروع حتّى اليوم كبش محرقة للفشل العظيم والانهزام أمام المغامرة البائدة التي كانت مسلّحة بكلّ صنوف الدعاية الكاذبة والقتل والتفجير والحروب والمؤامرات والترويع. وعلى الرغم من ذلك، عاد البعض لبثّ كلام ليبرّئ قائد “الحزب” من الجريمة بحجّة مقابلة وكلام بينه وبين الحريري قبيل اغتياله.

 لا أريد أيضاً حصر الأمور فقط بقضيّة اغتيال رفيق الحريري، وكأنّها هي ما صَعّد الخلاف مع حزب ولاية الفقيه في لبنان

تأتي الذكرى العشرون لاغتيال رفيق الحريري، ولا أقصد اليوم بهذا الكلام تحويل الذكرى إلى محطّة متكرّرة حتى الملل للندب ونكء الجراح والخطابات الفارغة، ولإثارة العصبيّات المذهبية، ولحَرف الأنظار. لكنّني لا أريد أيضاً حصر الأمور فقط بقضيّة اغتيال رفيق الحريري، وكأنّها هي ما صَعّد الخلاف مع حزب ولاية الفقيه في لبنان.

إقرأ أيضاً: رفيق الحريري حاول “أنسنة” الضّباع

الهدف من الذكرى هو التأكيد أنّ اغتيال رفيق الحريري وأعضاء لائحة الشرف الإنسانية، وآخرهم لقمان سليم، وحرب تمّوز وغزوة بيروت والحرب في غزة وسوريا واليمن والعراق ومع داعش والتطرّف من كلّ أشكاله، كلّها تأتي في سياق المواجهة المستمرّة بين مشروع ينمو كالطحالب على اليأس والجثث والدمار، وآخر يزهر على الأمل والبناء وحبّ الحياة. فالمواجهة لم تبدأ مع رفيق الحريري، بل كان هو أحد أبطالها وضحاياها، ولم تنتهِ مع اغتيال لقمان سليم، أو اغتيال شعب سوريا، أو شعب غزة، بل هي مستمرّة بين أسطورة قاتمة موحشة تمجّد الموت، وأخرى زاهية تعشق الحياة وتعتبرها نعمة لا يحق لأحد أن يهدرها. استشهاد رفيق الحريري كان نواة المقاومة التي صمدت أمام الاحتلال الإيراني للبنان، وتلك التي أسقطت منظومة القتل والفساد في سوريا، والبقيّة آتية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

هذا ما يُقلق نوم خامنئي

حين وقف المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، في خطبة عيد الفطر، نهاية آذار  2025 ليحذّر من خطر “الفتنة” في الداخل، وليقلّل من احتمالات…

“أميركا أوّلاً”… حتّى مع إسرائيل؟

لطالما وُصفت العلاقة السياسية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّها “شهر عسل” تقوم على الرمزيّة والإعجاب المتبادل وتطابق المصالح، لا…

تركيا وإيران: مواجهة جديدة في آسيا الوسطى؟

في عملية عسكرية مختلفة عمّا قامت به في الأشهر الماضية، شنّت القوّات الجوّية الإسرائيلية سلسلة غارات على أهداف عسكرية في دمشق وحماة وحمص ودمّرت  مطار…

دمشق لنا أيضاً… إلى يوم القيامة

يحقّ لنا أن نفرح باستعادة دمشق. نحن الذين أكل الوجع من أكبادنا حتّى شبع. وقد كنّا نردّد على رؤوس الأشهاد: نحن في الشرق والفصحى بنو…