متاهة أمين معلوف: عظمة أميركا ليست قدراً

يضجّ العالم بأحداث حربية في الشرق الأوسط وأوروبا، وكذلك بقضايا عن البيئة والمُناخ، وكلّها تتّصل على وجه من الوجوه بالولايات المتّحدة الأميركية، التي وصل الكاتب الفرنسي ـ اللبناني أمين رشدي معلوف إلى أنّها القوة العظمى حاليّاً، لكنّ هذا الواقع قابل للتغيير عند انعدام أسبابه الموجبة.

نقرأ ونحلّل ما ورد في كتابه “متاهة الضائعين: الغرب وخصومه” الصادر عن “دار غراسيه” بباريس، وترجمته إلى العربية “دار الفارابي” في بيروت.

 

ما يوضح الوجهة الأساسية التي يريدها الكتاب هو من جهة أولى أحداث غزة التي ينزع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مواطنيها سياقهم التاريخي والسياسي ويختزل معاناتهم بكونها فاجعة إنسانية من دون أن يحدّد المُعتدي، ويريد لهم النزوح إلى مصر والأردن لأنّ القطاع “مكان سيّئ الحظّ”، مُتغافلاً عن أنّ إسرائيل احتلّته. ومن جهة ثانية، الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا على الأراضي الأوكرانية وما بثّته هذه الحرب في النفوس من قلق من احتمال اشتعال حرب نووية لاحت أفقها أكثر من مرّة حتّى قرّر ترامب أنّها “يجب أن تتوقّف وستتوقّف”، لأنّها أذكت أسوأ صدامات الماضي.

تقف الولايات المتّحدة الأميركية الآن في مواجهة الاتّحاد الروسي بسبب الحرب في أوكرانيا، والصين لأنّها أدركت معنى “العولمة” واستثمرت فيها كلّ إمكاناتها، مع ما في ذلك من خطر على البشرية جمعاء. وهذا الخطر تمثّله قرارات الإدارة الأميركية ونزوعها المستمرّ لمواجهة كلّ حلم إمبراطوري ينبعث في أيّ دولة ترى أنّ إمكاناتها قادرة على نقلها من مصافّ الدولة العاديّة إلى مصافّ “دولة عظمى”، وهذا ما حدث مع اليابان والاتحاد السوفيتي والصين.

معلوف، أمين السرّ الدائم للأكاديمية الفرنسية، قدّم لكتابه بكلمات دالّة استعارها من الروائي الأميركي وليَم فوكنر: “إنّ الماضي لا يموت أبداً. لا ينبغي حتى الاعتقاد أنّه مضى”. هذا الارتكاز الذي اتّكأ عليه الكاتب كان فاتحةً له للبحث في تجارب الدول الثلاث التي اشتبكت الولايات المتحدة الأميركية مع كلٍّ منها.

يناقش معلوف أيضاً البعد التاريخي للعلاقة بين الصين والغرب، مشيراً إلى أنّ الصين لم تنسَ “قرن الإذلال” الذي تعرّضت له

حروب أمم

في هذا الكتاب، يعود أمين معلوف إلى جذور هذه المواجهة الجديدة بين الغرب وخصومه، راسماً مسارات أربع أُمَم كبيرة: اليابان في عصر الإمبراطور ميجي التي كانت أوّل دولة في آسيا تجرؤ على تحدّي تفوّق الأمم “البيضاء” البشرة، والتي بهر تحديثها المتسارع الوتيرة البشريّة جمعاء، وروسيا السوفياتيّة التي شكّلت، قبل انهيارها وطوال ثلاثة أرباع القرن، تهديداً عظيماً للغرب. والصّين التي تمثّل في القرن الواحد والعشرين التحدّي الرئيس لهيمنة الغرب، وأخيراً الولايات المتّحدة الأميركيّة التي تصدّت لكلّ من “المُتَحَدِّين” الثلاثة وأضحت، على تلاحُق الحروب، القوّة العظمى الخارقة الأولى على الكرة الأرضيّة. ويشكّل مجموع هذه السرديّات جداريّة تاريخيّة تُلقي ضوءاً غير مسبوق على النزاعات القائمة، وعلى حوافز الضالعين فيها، وعلى المفارقات الغريبة التي تَدْمَغ عصرنا وتجعله مع الماضي “عالماً متغيّراً”.

قوّة اليابان

في كتابه تناول المؤلّف اليابان كأوّل دولة وكواحدة من المحطّات التاريخية الرئيسية التي شكّلت مواجهة بين الغرب وخصومه. وشكّلت حقبة ميجي (1868-1912) مرحلة تحوّل جذري في تاريخ اليابان، حيث انتقلت البلاد من نظام إقطاعي إلى دولة حديثة وقويّة. ولاحقاً أذهل التحديث السريع لليابان العالم بأسره، حيث تحوّلت من دولة معزولة إلى قوّة صناعية وعسكرية كبرى.

ومع ذلك، يرى معلوف أنّ هذا التحدّي لم يكن تقليداً للغرب وحسب، بل كان أيضاً محاولة لخلق نموذج خاصّ بالشرق يمكن أن ينافس الهيمنة الغربية. وتعتبر حقبة ميجي، كما يصوّرها معلوف، نقطة تحوّل تاريخية كبرى في العلاقات بين الشرق والغرب. لقد كانت اليابان نموذجاً للدولة التي استطاعت أن تتحدّى الهيمنة الغربية من خلال التحديث الذكيّ والحفاظ على الهويّة الثقافية. هذا التحوّل لا يزال يؤثّر على الديناميكيات العالمية حتّى اليوم، حيث تستمرّ دول مثل الصين في اتّباع مسار مشابه للتحدّي والمنافسة.

في كتابه تناول المؤلّف اليابان كأوّل دولة وكواحدة من المحطّات التاريخية الرئيسية التي شكّلت مواجهة بين الغرب وخصومه

أسطورة الاتّحاد السّوفيتيّ

أمّا حقبة روسيا السوفياتية فقد تناولها معلوف بصفتها دولة ثانية، وذلك ضمن سياق تحليله العميق للتحوّلات العالمية وصراع الأيديولوجيّات. وناقش كيف أثّرت التجربة السوفياتية على العالم، ليس فقط من خلال الحرب الباردة والمواجهة مع الغرب، لكن أيضاً من خلال تداعيات سقوط الاتّحاد السوفيتي على روسيا نفسها وعلى النظام العالمي. ويرى أنّ الحقبة السوفيتيّة لم تكن تجربة سياسية فاشلة وحسب، بل كانت مشروعاً أيديولوجيّاً ضخماً حمل وعوداً كبرى، لكنّه انتهى إلى التسلّط والقمع والانهيار الاقتصادي.

كما يشير معلوف إلى أنّ الغرب، على الرغم من انتصاره في الحرب الباردة، لم يتمكّن من تقديم نموذج شامل يمكن أن يعوّض الفراغ الذي خلّفه سقوط الاتّحاد السوفيتي، فنشأت حالة من الفوضى والارتباك في روسيا وفي النظام العالمي ككلّ. وعلاوة على ذلك، ناقش كيف أنّ الإرث السوفياتي لا يزال حاضراً في السياسات الروسية الحديثة، حيث استلهم قادة روسيا ما بعد السوفيتية بعض عناصر الماضي لتعزيز نفوذهم، سواء من خلال استعادة الشعور بالقومية أو من خلال استغلال ضعف الغرب وانقساماته. وبأسلوبه الفلسفي العميق، لم يكتفِ معلوف بسرد الأحداث، بل حاول فهم الدوافع والأسباب التي قادت إلى هذه التحوّلات، وربطها بالصراع الأوسع بين الغرب وخصومه في العصر الحديث.

الصّين في “مواجهة الغرب”

أمّا الصين الدولة الثالثة فقد كانت ضمن سياق أوسع يتحدّث فيه معلوف عن الصراعات العالمية الحديثة بين الغرب وخصومه. ومن هنا جاءت الإضاءة على التحوّلات الجيوسياسية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، حيث أصبحت الصين لاعباً رئيسياً يتحدّى الهيمنة الغربية، ليس فقط اقتصادياً، بل أيضاً سياسياً وثقافياً. فهي تمثّل واحدة من القوى التي استطاعت أن تتجاوز الهيمنة الغربية من خلال نهضتها الاقتصادية والتكنولوجيّة، مستفيدة من تراجع الغرب في بعض المجالات. والصين لم تدخل في صدام مباشر مع الغرب عسكريّاً، لكنّها تبنّت استراتيجية طويلة الأمد للعودة إلى موقعها الطبيعي كقوّة عظمى، عبر التنمية الاقتصادية والاستثمار في التكنولوجيا.

في هذا الكتاب، يعود أمين معلوف إلى جذور هذه المواجهة الجديدة بين الغرب وخصومه، راسماً مسارات أربع أُمَم كبيرة

يرى معلوف أنّ الغرب لم يحسن التعامل مع صعود الصين، حيث تعامل معها بقدر من الغطرسة وعدم الفهم العميق لطبيعة تطوّرها. فبينما كانت الصين تستثمر في الابتكار والتوسّع الاقتصادي، كان الغرب منشغلاً بمشكلاته الداخلية، مثل الأزمات المالية والصراعات السياسية التي أضعفته. ويناقش معلوف أيضاً البعد التاريخي للعلاقة بين الصين والغرب، مشيراً إلى أنّ الصين لم تنسَ “قرن الإذلال” الذي تعرّضت له خلال التدخّلات الاستعمارية الغربية، ولذلك تسعى منذ “ماو” حتى الآن إلى استعادة مكانتها على الساحة العالمية. هذه الرؤية التاريخية تساهم في تشكيل السياسات الصينية تجاه الغرب اليوم، حيث تتّسم بالحذر والمثابرة بدلاً من المواجهة المباشرة. وقد مثّل صعود الصين تحوّلاً جذرياً في ميزان القوى العالمي. فبدلاً من التعامل بذكاء مع التغيّرات العالمية، وقع الغرب في أزمات داخلية جعلته يفقد بوصلة القيادة، بينما استطاعت الصين أن تستفيد من هذا الوضع لتعزيز نفوذها عالميّاً.

أميركا ضدّ “بقيّة العالم”

في نقاش دور الولايات المتحدة الأميركية كقوّة عظمى وكيفية تفاعلها مع التحدّيات التي تواجهها، يعود معلوف إلى أصول المواجهة بين الغرب وخصومه، ويقدّم تحليلاً شاملاً لتاريخها ودورها في تشكيل النظام العالمي الحديث، وهو ما جعلها “المُرشد الأعلى” للغرب من خلال تصدّيها لثلاث قوى كبرى: اليابان في عصر ميجي، وروسيا السوفياتية، والصين في القرن الحالي.

يرى معلوف أنّ الغرب لم يحسن التعامل مع صعود الصين، حيث تعامل معها بقدر من الغطرسة وعدم الفهم العميق لطبيعة تطوّرها

هكذا أصبحت الإدارات الأميركية المتعاقبة رمزاً للغرب في مواجهة “بقيّة العالم”، حيث تكرّس الصراع بين الغرب وخصومه كمواجهة بين قيم الحضارة الغربية وأنظمة أخرى تسعى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي. وضع هذا الصراع الولايات المتحدة في موقع الدفاع عن هيمنتها وقيمها في مواجهة التحدّيات الجيوسياسية والاقتصادية. فهي على الرغم من دورها اللاحق في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد أصبحت أيضاً مصدراً للصراعات التي أربكت استقرار العالم .

إقرأ أيضاً: عن “تجمّع الدّستور أوّلاً”: من خطاب المعارضة إلى بناء الدّولة

“متاهة الضائعين: الغرب وخصومه” يقدّم سرديّات جدارية تاريخية تلقي ضوءاً غير مسبوق على النزاعات القائمة، وهو إذ يسلّط الضوء على المفارقات التاريخية والسياسية التي جعلت الولايات المتحدة القوّة العظمى الأولى، إلّا أنّه يتشكّك في استمرار هذه القوّة، “إذ قد تتغيّر غداً موازين القوى، وقد ينهار سدّ ما: سدّ التفوّق العسكري، سدّ الدولار بوصفه عملة مرجعية وأيّ سدّ آخر أيضاً مرتبط باختراقات تكنولوجيّة غير متوقّعة…”.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

لبنان في ظلال جهنّم: حكاية رفيق الحريري

يروي السياسي باسم السبع في كتابه “لبنان في ظلال جهنّم” مرحلة مهمّة من تاريخ لبنان عايشها وكان على تماسّ مع وقائعها. واكب تطوّراتها إلى جانب…

خمسينيّة أمّ كلثوم: “الصوت” الذي لا يموت..

على الرغم من مرور نصف قرن على رحيلها، لا تزال السيّدة أمّ كلثوم، كوكب الشرق ودرّة تاجه، صوتاً استثنائيّاً نابضاً بالدفء والحياة، ورمزاً خالداً للفنّ…

السعودية تُصدّر ثقافتها: ترجمات أدبية تُثري مكتبة السويد

الرياض للمرّة الأولى، يُفتح باب جديد أمام الأدب السعودي ليُترجم إلى السويديّة، في خطوة غير مسبوقة تضع النصوص العربية في حوار ثقافي عابر للحدود. وذلك…

جوائز “Joy Awards” السّعوديّة: رسائل سلام.. ومشاهير العالم

الرياض الحلم هي أكثر كلمة تكرّرت على لسان نجوم وضيوف وصل عددهم إلى 1,100 شخصية عربية وعالمية، في حفل “جوائز صنّاع الترفيه – Joy Awards…