عشرون عاماً ونحن ننتظر. كان مصطفى بدر الدين يتباهى بينما يتجوّل بدرّاجته النارية على مقربة من السراي الحكومي في بيروت. بعدما رفعوه ورفاقه القتلة إلى أعلى مراتب القداسة. كان قاسم سليماني يتذوّق البوظة العربية في “بكداش”. بعدما تباهى بالسيطرة على أغلى حواضر وعواصم العرب. كان سليم عيّاش يقتل الشعب السوري في دمشق وأريافها. يُجهض ثورتهم اليتيمة، وينتصر للسيف على الدم. كان السيّد يرفع إصبعه في وجوهنا، نحن أهل الفجيعة وأولياء القهر وملح هذه الأرض.
لقد جرفهم الطوفان يا دولة الرئيس. جرفهم جميعاً. من بشار الأسد، ذاك الولد الذي خشيت أن يحكم سوريا، وكنت يومذاك ثاقب النظر ومكشوف البصيرة. إلى خامنئي، ذاك الذي أخبرنا عن خنجر إزميرالدا في رواية أحدب نوتردام، وهو الخنجر الذي يريدنا أن ننام في حضنه، بعدما نام طويلاً في خاصرتنا. إلى حسن نصرالله. ذاك الذي أحضرت له الحذاء المخصّص لوجع ظهره، بينما كان شبابه يُصوّرون موكبك تحضيراً للحظة الفتك العظيم.
عشرون عاماً ونحن ننتظر. كان مصطفى بدر الدين يتباهى بينما يتجوّل بدرّاجته النارية على مقربة من السراي الحكومي في بيروت
جرفهم الطوفان يا دولة الرئيس. بشّار المستشرق صار ورقة ذليلة بيد بوتين. يُسلّمه متى شاء إلى حتفه. لقد هرب تحت جنح الظلام. ترك قصره وكرسيّه وصوره الحميمة وهرب. ترك ناسه وهرب. خدع أقرب المقرّبين إليه وهرب. ها هو يجلس الآن في سجنه البارد في موسكو. صار ميتاً على قيد الحياة. لا تغمض له عين ولا ينام له قلق.
جرفهم الطوفان يا دولة الرئيس. السيّد بلا ضريح يخلد إليه حتى الآن. يبحث عن نعش ينام فيه منذ تهاوت فوقه أطنان الحقد. خليفته قضى اختناقاً بعد نفاد الأوكسجين. شبابه الذين عاثوا في الأرض فساداً، انقلبت فوقهم الدنيا. ومشروعه العابر للجغرافيا والخرائط والدم والكرامات صار لصيق الأرض. أثراً بعد عين. وهمٌ وسرابٌ وصراخٌ وعويل. زلزلت الأرض زلزالها يا دولة الرئيس.
خردة وحطب
جرفهم الطوفان يا أبا بهاء. جرف رستم غزالي. وجرف سليم عياش. وجرف ماهر الأسد وآصف شوكت وعلي مملوك. حتى قبر حافظ لم يسلم من الجرف. جرفهم الطوفان إلى مزبلة التاريخ. وجرف معهم أقبية السجون وفروع المخابرات وحواجز التشبيح ومكابس القتل. ما بقي في سوريا سوى شعبها الطيّب. أولئك الذين كانوا يبادلونك السلام والابتسامة والحبّ، كلّما توقّفت سيارتك عند إشارة سير في شوارع دمشق.
جرفهم الطوفان يا أبا بهاء. جرف رستم غزالي. وجرف سليم عياش. وجرف ماهر الأسد وآصف شوكت وعلي مملوك. حتى قبر حافظ لم يسلم من الجرف
جرفهم الطوفان يا دولة الرئيس. ما بقي من المشروع الإيراني الذي استوى فوق دمك إلّا الحطب اليابس. خسروا الشام وأهلها. خسروا بيروت وناسها. خسروا بغداد وصنعاء وفلسطين. بقيت لهم حفنة من الخردة التي يُسمّونها سلاحاً. أو صواريخَ تعبر القارّات. بعضها بسرعة الصوت وبعضها بسرعة الضوء. بالسرعة نفسها هوت أساطيرهم. وهوى خلفها كلّ ما بنوه من وهمٍ وصلفٍ ودولٍ من كرتون. وما بقي في كرومهم سوى ذاك الرجل الثمانينيّ المفطور القلب في طهران. يكاد البكاء يفرّ من مقلتيه. وهو يلوّح لآخر رجاله الذين اندثروا على درب حلمه المستحيل.
جرفهم الطوفان وبقيت أنت يا دولة الرئيس. أيقونة في قلوب الناس وفي قلب بيروت. تعيش في ذاكراتهم المستدامة وكأنّك الميت الذي لا يموت. عشرون عاماً من الموج. من المدّ والجزر. بدأ الطوفان بقتلك في صبيحة ذاك اليوم الحزين. وظلّ الموج يرتعد ويتلاطم. حتّى استحال كما النهر العظيم.
إقرأ أيضاً: نوّاف سلام بين جنازتين
في ذكرى رفيق الحريري. في عشرينيّته. نغلق دفتر الثأر ودفاتر الانتقام والضغينة. ثمّ نضعها فوق النهر الجارف الذي أثلج صدورنا. وكما أنّه يستحيل الاستحمام بماء النهر نفسه مرّتين. فإنّ ما مضى قد مضى. بحلوه ومرّه. وغداً يوم آخر. مع لبنان الذي ظلّ يحلم به رفيق الحريري حتّى أحرقوه بطنّين من المتفجّرات.