هل يمكن أن تكون التجربة السياسية لحزب العدالة والتنمية التركي نموذجاً صالحاً لتكراره في سوريا بقيادة الجهادي السابق أحمد الشرع؟ أم اختلفت الظروف ولا بدّ من تعديلات وتصويبات كي يتلاءم النموذج التركي بعموميّاته مع الحالة السوريّة الشديدة التعقيد من جهة، والأكثر سهولة من جانب آخر، بحكم التوازنات الشعبية بين المكوّنات الطائفية والأيديولوجية والبيئة المحافظة في المدن السورية، بخلاف الحال في الجمهورية التركية التي ما زالت فيها العلمانية متجذّرة في شرائح مدينية كبيرة؟
لا خيار أمام أحمد الشرع سوى تلمّس بعض جوانب الإسلام التركي الناجح عموماً، لإحداث سيولة أيديولوجيّة كافية للتخفيف من الصدام الفكري بين التيّارات المتصارعة داخل المجتمع السوري.
في البدء كانت مغامرة
يمكن اختصار الحياة العمليّة لأحمد الشرع بأنّها سلسلة من المغامرات المختلفة، والمتنوّعة، والمتناقضة بشدّة. وهذا ما يحمّله أعباء كلّ حقبة سابقة والتزاماتها الفكرية والتنظيمية، في كلّ مرحلة جديدة يفتتحها. وهو قد مرّ بعدّة مراحل، وراجع أفكاره في كلّ مرحلة، فبقي معه من بقي من رفاقه عند كلّ منعطف، ومنهم من تركه غاضباً، أو حاربه وحاول الانقلاب عليه، وتأليب الناس عليه بوصفه منحرفاً عن الثورة تارة أو عن المنهج السلفي تارة أخرى.
لا خيار أمام أحمد الشرع سوى تلمّس بعض جوانب الإسلام التركي الناجح عموماً، لإحداث سيولة أيديولوجيّة كافية
لم يحدث في تاريخ المجموعات المتمرّدة الحديثة أن انتقل قائد جماعة جهادية سلفيّة مطارَد ومطلوب من كلّ الجهات بقفزة كبرى من الخنادق إلى القصور وحتى من دون المرور بالفنادق، ومن شخص غامض ومنبوذ إلى محطّ الأنظار وتحت الأضواء الساطعة.
إذا كان إسقاط نظام بشار الأسد بعملية عسكرية خاطفة قد بدا نوعاً من العمليات العسكرية الاستثنائية، وبأقلّ قدر من الأضرار، فهو أقلّ صعوبة بكثير من بناء سوريا الجديدة أو إقامة نظام سياسي يوائم بدقّة بين الاتّجاهات الفكرية المتضاربة، سواء داخل تنظيمه السابق أو جملة الفصائل المسلّحة، أو في المجتمع السوري المتطلّع إلى حياة مختلفة.
قبل 13 عاماً
بدأت مسيرة “أبي محمّد الجولاني” قبل 13 عاماً قائداً لجماعة جهادية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بصندوق الانتخابات، بل توازي في كثير من الأحيان بين الديمقراطية والخروج من الملّة، وانتهت إلى نظام سياسي جديد لا يمكن إلّا أن يكون قائماً على ديمقراطية وأحزاب وانتخابات وصناديق اقتراع. الديمقراطية في جوهرها اعتراف صريح بمكوّنات المجتمع كلّه وحقوقها السياسية، وإن كانت تعني في نهاية المطاف حكم الأكثرية التي تنتج عن انتخابات تساوي بين جميع السوريين، على قاعدة المواطنية لا الانتماء الديني.
فهل يملك الشرع تصوّراً واضحاً عن هذا النظام الجديد، كما كان يمتلك تصوّراً وافياً عن كيفية إسقاط النظام السابق عسكرياً؟ وهل صرف الوقت الكافي وهو يدير مؤسّسات حكومة إدلب على مراجعة الأفكار التي نهل منها في العراق، وفي السجون الأميركية هناك، بصحبة قادة التنظيمات السلفية؟ وهل هو قادر على تطبيقه والمضيّ فيه من دون التسبّب بتصدّعات داخل البنية الأيديولوجية والعسكرية الصلبة التي أوصلته إلى كرسي الحكم في دمشق؟
إذا حدثت تلك التصدّعات، ونجا منها، فلن يكون إلا شخصية جديدة تماماً لا تشبه شخصية أبي محمد الجولاني في شيء. أمّا إن تمكّن من استيعاب الصدمات، وأكمل المسيرة بمعظم الكتلة الشعبية والعسكرية التي رافقته من إدلب وحتى دمشق، فسيكون ذلك إنجازاً لا يقلّ شأناً عن إسقاط النظام السابق.
يبدو من مراقبة مواقف الشرع، وتصريحاته، ولقاءاته مع الوفود الرسمية والشعبية، الأجنبية والعربية، أنّ الرجل جادّ في مساره الجديد
أسئلة كثيرة من دون إجابات
يبدو من مراقبة مواقف الشرع، وتصريحاته، ولقاءاته مع الوفود الرسمية والشعبية، الأجنبية والعربية، أنّ الرجل جادّ في مساره الجديد، وحذر إلى أقصى الحدود، فهو يمشي على خيط مشدود فوق هاوية سحيقة، وحوله ووراءه خصوم ورفاق يتربّصون به وينتظرون تعثّره للانقضاض عليه، والتخلّص منه. طوق النجاة أمامه هو افتقار الجميع بين موالين له ومعارضين، إلى بديل عن شخصه، وعمّا يملكه من قدرة فائقة على التواصل مع الآخرين، والتأثير فيهم، وإقناعهم. وهذا هو الرصيد الأساسي الذي يعتمد عليه لتدوير الزوايا، والسير فوق حقول الألغام.
لكنّه مع ذلك لا يمكنه التملّص من طرح الإجابات على الأسئلة المباشرة. يؤمن بالاقتصاد الحرّ لا الاشتراكي الموجّه، لكن ما رأيه الصريح بالليبرالية السياسية والاجتماعية؟ فهل هو مع التعدّدية الحزبية والتنافس الحرّ في الانتخابات بين أحزاب عابرة لطوائف المجتمع؟ وهل هو بصدد أسلمة القوانين والدفع بدستور يصرّح بمكانة الإسلام في الدولة، أي أن يكون دين الدولة الإسلام، أو أن يكون الرئيس مسلماً سنّياً، أو أن تكون الشريعة مصدراً أساسياً للقوانين أو أن تكون مبادئ الشريعة بشكل عامّ هي المصدر؟
ما موقفه من دور المرأة في العمل والإدارة والسياسة؟ هل تكون لها حصّة محجوزة في البرلمان (كوتا)، أم يُترك لها المجال الحرّ، أم توضع القيود عليها؟ ما مصير الفنّ السوريّ، لا سيما الإنتاج التلفزيوني الذي ازدهر كثيراً في زمن الأسدين، وبعض أبرز الفنّانين السوريين كانوا مع الثورة، وقضى بعضهم في السجون تحت التعذيب؟
تفرض الملفّات العالقة الاشتباك والتنازل بين البلدين عاجلاً أم آجلاً، مهما حسنت النيّات، أو فرضت الظروف تهدئة الأوضاع وتجميد الخلافات
حقوق الأقليات؟
كيف يضمن حقوق الأقليّات في الإدارة والحكم؟ وكيف يوازن بين اعتماد مبدأ الكفاية ومتطلّبات سياسة الاستيعاب الوطني دون تهميش أو إقصاء؟ هل يترشّح للرئاسة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية بعد أربع سنوات مثالاً، أم يفسح المجال لشخصيّات أخرى حفاظاً على مبدأ تداول السلطة؟
هل يتحوّل إلى حاكم مستبدّ كشأن كلّ الثوار من قبله بعد إسقاط نظام جائر؟ وفي العلاقات الخارجية؟ كيف يحافظ على نقطة التوازن أو شعرة معاوية بين المصالح المتعارضة على طول الخطّ بين روسيا والغرب؟ وعلى التوجّهات المتقاطعة بين تركيا والعرب، وبين لوازم دعم القضية الفلسطينية وإرغامات التطبيع مع إسرائيل لو حان الوقت؟
استطراداً، ماذا بخصوص الجولان المحتلّ، وما هي استراتيجيّته لاسترداد الأرض المحتلّة؟ هل بالقوّة أم بالتفاوض؟ وكيف سيكون موقفه من المشروع الجنوني للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والقاضي بتصفية القضية الفلسطينية باعتبار فلسطين عقاراً قابل للتطوير والاستثمار؟
لا يريد حرباً كما قال الشرع منذ أن بدأ الجيش الإسرائيلي يوسّع احتلاله للجولان إلى مشارف دمشق، لكنّ طبول الحرب تُدقّ من حوله، ولا يمكنه تجاهلها لوقت طويل. ما هي رؤيته للعلاقة مع لبنان على الرغم من إعلانه عدم التدخّل في شؤون الدولة الجارة، لا سيما مع تداخل المصالح والإشكاليات بين البلدين: الحدود وترسيمها، النازحين والمعتقلين السوريين في لبنان، ومصير الودائع السورية في المصارف اللبنانية؟
تفرض هذه الملفّات العالقة الاشتباك والتنازل بين البلدين عاجلاً أم آجلاً، مهما حسنت النيّات، أو فرضت الظروف تهدئة الأوضاع وتجميد الخلافات.
لا بدّ من الالتفات إلى أنّ تجربة إردوغان هي خلاصة العمل السياسي الإسلامي، الذي قام به معلّمه السابق نجم الدين أربكان
لا إجابات واضحة
كلّ هذه الأسئلة وغيرها تزدحم في الأذهان ولا إجابات واضحة عنها، بل يتعمّد الشرع إطلاق إجابات عامّة، ويؤجّل بعضها الآخر إلى حين انطلاق مؤسّسات المرحلة الانتقالية، أي انعقاد اللقاء الوطني للتحاور في مختلف الأمور، وبدء أعمال لجنة صياغة الدستور المؤقّت، ثمّ الاستفتاء عليه، وتنظيم أوّل انتخابات نيابية ورئاسية حقيقية، وتشكيل أوّل حكومة تمثيلية للإرادة الشعبية.
في الأثناء، يحاور، ويستمزج الآراء، وربّما يستصدر الفتاوى من علماء ومرجعيّات، كي يحصّن خياراته من الانتقادات وحملات التخوين والتكفير. وبين كلّ هذا وذاك، يناور كما اعتاد أن يفعل طوال مسيرته من البندقية إلى الدولة. لكن ما هي اعتبارات الأخذ أو الترك من النموذج التركي؟
نموذج العدالة والتّنمية
قبل تناول صلاحية النموذج الإردوغاني للحكم الجديد في سوريا، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ تجربة إردوغان هي خلاصة العمل السياسي الإسلامي، الذي قام به معلّمه السابق نجم الدين أربكان في حقب مختلفة استمرّت لعقود، بين تعايش وتصادم مع العلمانيين والجيش التركي. فجاء إردوغان بصيغة حزبية جديدة تقلّل الصدام إلى أدنى حدّ بالحفاظ على النظام العلماني في تركيا، وتحويل الرئاسة إلى منصّة دعوية إسلامية، بغضّ النظر عن مدى تأثير ذلك في المجتمع التركي.
إلا أنّ البيئة السورية أكثر تديّناً ومحافظة، لا سيما في المدن السورية الكبرى، التي رعى النظام البعثي الأسديّ، في أيّام الأب والابن، الجماعات التقليدية التربوية والصوفيّة فيها، بديلاً من الإسلام السياسي الذي كان يمثّله الإخوان المسلمون. ومع انتصار الثورة السورية، على أيدي الجماعات الإسلامية السلفيّة النزعة، لا سيما هيئة تحرير الشام، كبرى تلك الجماعات، حظي الإسلام الثوري، إن صحّ التعبير، في سوريا، بشرعية ثورية كان مصطفى أتاتورك العلماني يحظى بها عقب الحرب العالمية الأولى، وانتصاره على الاحتلالين الفرنسي واليوناني خاصة، وهو ما أتاح له لاحقاً القضاء على نظام السلطنة والخلافة، وتأسيس نظام علماني صارم.
إقرأ أيضاً: طهران تريد لبنان منصّة ضدّ سوريا الجديدة؟
فروق كبيرة بين التركية والسورية
المقارنة تُظهر فروقاً كبيرة بين الحالتين التركية والسورية. ويبقى التشابه في التعدّدية الطائفية بين البلدين. ففي تركيا غالبية سنّية وأقلّية علوية كبيرة، لكنّ العلمانية عابرة بين الطرفين ولو بنسبة متفاوتة. والتوازن دقيق بين الإسلاميين والعلمانيين الأتراك بعد عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية. فيما النسبة المئوية للغالبية السنّية في سوريا أكبر، والعلمانية ضعيفة الجانب ومقتصرة على النخب. وهو ما يثير أكثر قلق الأقلّيات.
بناء على ذلك، ليست مهمّة أحمد الشرع سهلة ولا مفروشة بالورود، على الرغم من اعتباره الفاتح الذي خلّص السوريين من أقبية الأسد. عزاؤه الوحيد أنّ إيران وروسيا تحظيان بنفوذ لدى الأقلّيات المتوجّسة، وبهذا تشكّلان تهديداً دائماً للاستقرار، وهو ما يمنح الشرع فرصة التعويل على الخطر الخارجي وتهديد فلول النظام في الداخل، لتجاوز عثرات التجربة الوليدة.
لمتابعة الكاتب على X: