خمسينيّة أمّ كلثوم: “الصوت” الذي لا يموت..

على الرغم من مرور نصف قرن على رحيلها، لا تزال السيّدة أمّ كلثوم، كوكب الشرق ودرّة تاجه، صوتاً استثنائيّاً نابضاً بالدفء والحياة، ورمزاً خالداً للفنّ المصري والعربي ولكلّ من همس بلغة الضّاد.

 

هي الستّ، لا سابع بعدها ولا خامس قبلها. تتربّع على عرشها كواحدة من أكثف الظواهر البشرية على الإطلاق. ما نازعها أحدٌ ولا حتّى اقترب، حتّى استحالت أيقونة من طراز إيزيس، تلك السيّدة التي صارت إلهة للنساء أجمعين.

قالوا فيها ما يتجاوز كلّ قدرة على الجمع أو التوثيق. سال عند حنجرتها حبرٌ وفيرٌ. كتبوا عن منديلها الذي ظلّ رفيق يدها، يُبدّد توتّرها، ويطير معها كحمامة حطّت لكي تشرب. أشاروا إلى هيبتها الطافحة، حضورها الآسر، وجهها البهيّ، وجنونها المباغت حين تلمح في عيون الحاضرين رغبة بالانصهار أو الانفجار.

باب الخلود

كانت صنو الإنترنت في عصرها. ثمّ صارت الحدّ الفاصل بين الذوق وعدمه، بين الجمال ونقيضه، بين العسل وكلّ سكّر العالم. اختصرت مرحلة كاملة، بقضّها وقضيضها، من عمق عميق السياسة إلى نخاع شوك الطرب، ومن عيون الأدب إلى نهر من مخيال لا ينضب.

جسّدت أمّ كلثوم تلك الصورة الأكثف عن السلطة التي تمنحها السماء لقلّة قليلة من خلاصة البشر. وقدر ما يُنتجه هؤلاء أن يدخل التاريخ من الباب المخصّص للخالدين. فلا يموت صنيعهم بمرور زمن ولا بانقضاء حقبة ولا بانهيار مشروع، بل يظلّون على الدوام آية من آيات السحر المبين. وها نحن نستمع اليوم إلى أغنياتها ونصرخ معها عند كلّ منعطف. حالنا في ذلك حال أولئك الذين جلسوا بين يديها. ليس يُفرّق بيننا وبينهم إلّا نصف قرن من التطوّر تغيّر فيه كلّ شيء وبقيت أمّ كلثوم.

هي الستّ، لا سابع بعدها ولا خامس قبلها. تتربّع على عرشها كواحدة من أكثف الظواهر البشرية على الإطلاق

ليس عابراً ولا عاديّاً أن تنافس أمّ كلثوم كبار المطربين في عصرنا، وكبريات شركات الإنتاج، وشركات الإعلان، ووسائل التكنولوجيا، والذكاء الصناعي، ومنصّات الإعلام البديل، وفلاتر الصورة والصوت، والتطوّر المهول الذي طرأ منذ نصف قرن. ليس عابراً ولا عاديّاً أن تنافس، فكيف هي الحال إذاً وقد هزمتهم جميعاً بينما تنام في ضريحها منذ خمسة عقود؟!

انطلاقة صاروخيّة

هي فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيّد البلتاجي، وتعرف أيضاً بكُنيتها المشهورة أمّ كلثوم، كما بعدّة ألقاب انهمرت عليها على مدار مشوارها الفنّي، كالهرم الرابع، وثومة، والجامعة العربية، والسّتّ، وسيّدة الغناء العربي، وشمس الأصيل، وصاحبة العصمة، وكوكب الشرق، وقيثارة الشرق، وفنّانة الشعب. ولدت في محافظة الدقهليّة بالخديويّة المصرية في 31 كانون الثاني من عام 1898، وتوفّيت في القاهرة بعد معاناة مع المرض في الثالث من شهر شباط من عام 1975، فيما تحتفل مصر والعالم اليوم بالذكرى الخمسين لرحيلها.

أمّ كلثوم

سمعت من والدها القصائد والتواشيح وهي طفلة صغيرة، ومع التكرار حفظت ما سمعته وراحت تردّده، فأبهرت كلّ من استمع إليها، وبدأت مذّاك رحلتها الطويلة مع المسرح والغناء. ثمّ دخلت عام 1928 مرحلة الانطلاقة الصاروخية نحو شهرة واسعة النطاق، حيث حقّقت أسطوانتها أعلى نسبة مبيعات على الإطلاق، وصارت منافسة لأكبر مطربتين في ذاك العصر: سلطانة الطرب منيرة المهديّة، ومطربة القطرين فتحيّة أحمد.

على الرغم من مرور نصف قرن على رحيلها، لا تزال السيّدة أمّ كلثوم، كوكب الشرق ودرّة تاجه، صوتاً استثنائيّاً نابضاً بالدفء والحياة

الإسوارة والتّاج

غنّت أمّ كلثوم لأشهر شعراء مصر والعرب في ذلك الزمان، وتعاونت مع ألمع الملحّنين بلا منازع، وامتدّ جمهورها من آخر مناطق الريف إلى قلب الكنانة، ومنها إلى مدن وعواصم العرب وشوارعهم وأحيائهم ومقاهيهم. وكانت تفرغ الميادين والأسواق من الناس، كلّ مساء يوم خميس من كلّ شهر، حينما تُذاع حفلاتها عبر الإذاعة المصرية وتؤجّل بسببها نشرة الأخبار.

لم يكن تأثير أمّ كلثوم موسيقيّاً فحسب، بل تحوّل صوتها إلى هويّة سياسية واجتماعية عميقة جدّاً، لا سيما بعد ثورة الضبّاط الأحرار ووصول الرئيس جمال عبدالناصر إلى سدّة الحكم في مصر، إذ جمعتهما علاقة مميّزة للغاية، قاربت حدود الهمس عن عشق مستور لامس مرتبة الهُيام، وقد تنازعا معاً الضوء العابر للجغرافيا والخرائط، وكلّ منهما يريد للآخر أن يصير أكثر توهّجاً.

إقرأ أيضاً: السعودية تُصدّر ثقافتها: ترجمات أدبية تُثري مكتبة السويد

رقدت أمّ كلثوم في قبرها منذ نصف قرن، لكنّها ما غابت يوماً وليست تغيب، تماماً كما لو أنّها إسوارة في يد القرن الذي مضى، وتاجٌ يُرصّع كلّ قرن جديد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef

مواضيع ذات صلة

لبنان في ظلال جهنّم: حكاية رفيق الحريري

يروي السياسي باسم السبع في كتابه “لبنان في ظلال جهنّم” مرحلة مهمّة من تاريخ لبنان عايشها وكان على تماسّ مع وقائعها. واكب تطوّراتها إلى جانب…

متاهة أمين معلوف: عظمة أميركا ليست قدراً

يضجّ العالم بأحداث حربية في الشرق الأوسط وأوروبا، وكذلك بقضايا عن البيئة والمُناخ، وكلّها تتّصل على وجه من الوجوه بالولايات المتّحدة الأميركية، التي وصل الكاتب…

السعودية تُصدّر ثقافتها: ترجمات أدبية تُثري مكتبة السويد

الرياض للمرّة الأولى، يُفتح باب جديد أمام الأدب السعودي ليُترجم إلى السويديّة، في خطوة غير مسبوقة تضع النصوص العربية في حوار ثقافي عابر للحدود. وذلك…

جوائز “Joy Awards” السّعوديّة: رسائل سلام.. ومشاهير العالم

الرياض الحلم هي أكثر كلمة تكرّرت على لسان نجوم وضيوف وصل عددهم إلى 1,100 شخصية عربية وعالمية، في حفل “جوائز صنّاع الترفيه – Joy Awards…