غالباً ما يصعب الحفاظ على التفاؤل في لبنان، حيث تغرق البلاد في الأزمات وتعاني من عدد لا حصر له من الفرص الضائعة المتكرّرة لدرجة أنّها تثبت بشكل صارخ أنّه يمكن للتاريخ تكرار نفسه.
اليوم، وبعد أكثر من عامين، نجح المشرّعون اللبنانيون في انتخاب قائد الجيش اللبناني، الجنرال جوزف عون، رئيساً بأغلبية ساحقة. كان خطابه الرئاسي ملخّصاً لبرنامجه. أكّد فيه التزامه باستعادة الدولة احتكارها لاستخدام السلاح وسعيها نحو الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحوكمة. وشدّد على أنّ أزمة الحكم في لبنان تنبع من “الفشل في إنفاذ القوانين أو سوء تفسيرها وصياغتها”.
هذا التفاؤل الذي نتج عن انتخاب الرئيس عون اكتسب مزيداً من الزخم في 13 كانون الثاني حين عُيّن القاضي نوّاف سلام رئيساً للوزراء مكلّفاً تشكيل حكومة بعد حصوله على 84 صوتاً من أصل 128 صوتاً لأعضاء المجلس النيابي في الاستشارات الملزمة. حتّى يوم تعيينه كان رئيس الوزراء المكلّف رئيساً لمحكمة العدل الدولية، وسفيراً سابقاً لدى الأمم المتحدة، وأكاديميّاً بارزاً. ومع تعيينه، بدت آفاق تعافي لبنان أكثر إشراقاً ممّا كانت عليه منذ عقود، مع شعور متجدّد بالأمل أن تتمكّن البلاد من مواجهة التحدّيات والتشوّهات التي خلّفها ماضيها المضطرب.
إذا كان الحظّ هو الصدى للقدر، فإنّ قدر لبنان على ما يبدو مليء بالتحدّيات المستمرّة. إذ سرعان ما برزت إلى الواجهة أزمة الحكم التي تحدّث عنها الرئيس عون في خطاب تنصيبه. إذ لم يحصل رئيس الوزراء المعيّن على أيّ من أصوات النوّاب الشيعة السبعة والعشرين، الذين قاطعوا أيضاً الاستشارات غير الملزمة لتشكيل الحكومة.
غالباً ما يصعب الحفاظ على التفاؤل في لبنان، حيث تغرق البلاد في الأزمات وتعاني من عدد لا حصر له من الفرص الضائعة المتكرّرة لدرجة أنّها تثبت بشكل صارخ أنّه يمكن للتاريخ تكرار نفسه
هذه الأزمة متجذّرة بعمق في اتّفاق المصالحة الوطنية (اتّفاق الطائف) لعام 1989، الذي كان له الدور الحاسم في إنهاء الحرب الأهليّة اللبنانية. فقد أدخل هذا الاتّفاق تعديلات دستورية تمّ إقرارها عام 1990، بما في ذلك مقدّمة للدستور تتألّف من 10 نقاط. تؤكّد النقطة الأخيرة منها على أن “لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. تفسير هذه المادّة من مقدّمة الدستور سيؤثّر بشكل كبير على شكل الحكومة الأولى ودورها ووظائفها خلال ولاية الرئيس عون.
كما أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي يشهد فيها لبنان أزمة حكم يمكن أن تُعزى إلى اتّفاق الطائف.
روايات زائفة… وغموض “الطّائف”
نجحت إحدى الروايات الزائفة المتعلّقة بالسياسة الداخلية اللبنانية في خلق غموض حول دور اتفاق الطائف، بزعم أنّه أسّس لمبدأ الغالب والمغلوب/ الفائز والخاسر. من خلال إعادة توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاث. وقد أساءت قوى طائفية محدّدة استخدام هذه الرواية وبنت حولها شعوراً بالظلم السياسي، بهدف ضمان استمراريّتها من خلال استخدامها سلاحاً ضدّ الجماعات الأخرى بغضّ النظر عن اسم هذه الجماعات أو نفوذها.
استحدث اتّفاق الطائف مؤسّسات دستورية جديدة، بما في ذلك المجلس الدستوري ومجلس الشيوخ. أُوكلت إلى المجلس الدستوري مهمّة “تفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين وبتّ النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية”. غير أنّ الغرض من إنشاء المجلس الدستوري لم يتمّ الالتزام به بالكامل. فالتعديل الدستوري الذي أقرّ في أيلول 1990 لم يمنح المجلس سلطة تفسير الدستور على النحو المقصود به خلال الاجتماعات التي عقدت في الطائف في المملكة العربية السعودية.
استحدث اتّفاق الطائف مؤسّسات دستورية جديدة، بما في ذلك المجلس الدستوري ومجلس الشيوخ
اليوم أصبحت الخلافات حول تفسير الأحكام الدستورية أداة مركزية في النزاعات السياسية في لبنان. فبات كلّ فصيل سياسي أو طائفي يعتمد الآن على خبرائه الدستوريين لتفسير أحكام الدستور وفقاً للاحتياجات. ويتّضح ذلك بشكلٍ خاصّ في تفسير المادّة الأخيرة من مقدّمة الدستور، التي تربط الشرعية بالالتزام بالعيش المشترك، حيث لا تزال غير واضحة آليّة إدارة هذه العلاقة بين الشرعية والتعايش المتبادل.
هل يكفي تمثيل جميع الطوائف في الحكومة، وضمان التكافؤ بين المسيحيين والمسلمين والتمثيل النسبي بين الطوائف، حتى تعتبر الحكومة شرعية؟ أم تنبع الشرعية من أنّ للأطراف السياسية الممثّلة لهذه الطوائف السلطة لتعيين وزرائها في الحكومة؟
إلى ماذا يحتاج نوّاف سلام؟
كان أحد الانتقادات القليلة لاتّفاق الطائف هو الافتراض أنّ الجماعات السياسية والطائفية ستقبل طواعية بإلغاء الطائفية السياسية. ومع ذلك، لم يمنح اتفاق الطائف أيّ جماعة طائفية، حتى تلك التي تحتكر المقاعد البرلمانية لطائفتها، حقّ النقض أو القدرة على نزع الشرعية عن المؤسّسات بناء على عدم مشاركتها في تسمية المرشّحين.
ما حقّقه اتّفاق الطائف، مع ذلك، هو إصلاح الخلل وعدم التوازن في توزيع المناصب البرلمانية والوزارية والإدارية من الدرجة الأولى بين الأديان والمذاهب.
اليوم أصبحت الخلافات حول تفسير الأحكام الدستورية أداة مركزية في النزاعات السياسية في لبنان
للتغلّب على هذا النقاش وإدارة الجدل، قد يحتاج رئيس الوزراء المكلّف إلى إعادة النظر في منهجية تشكيل الحكومة. وليس هدف المشاورات غير الملزمة التي يجريها رئيس الوزراء المكلّف مع النواب التماس مقترحات حول مرشّحين للمناصب الوزارية. بل بالعكس تهدف إلى جمع آراء وتوقّعات هؤلاء النواب حول نوع وبنية الحكومة، علاوة على محتوى بيانها الوزاري.
بالتالي يجب أن لا تكون هذه المشاورات مدخلاً للأحزاب السياسية لفرض مرشّحيها. لذلك بدلاً من السماح للجماعات السياسية أو الطائفية الممثّلة في البرلمان بتسمية مرشّحين لمناصب وزارية، يجب على رئيس الوزراء المكلّف أن يقدّم مقترحات الحكومة مباشرة إلى رئيس الجمهورية، وفقاً للدستور، ومن دون مناقشة أسماء محدّدة مع أيّ مجموعات سياسية أو نوّاب. ويعود الأمر بعد ذلك إلى البرلمان ككلّ لمنح الثقة للحكومة الجديدة أو حجبها.
إقرأ أيضاً: عون – سلام: نهاية 50 عاماً من الوصاية
هناك دوماً حاجة إلى إعادة النظر في الاتّفاقات أو الدستور بعد فترة معيّنة. واتفاق الطائف، الذي مضت عليه الآن 35 عاماً، ليس استثناءً. ومع ذلك، لم يُمنح هذا الاتّفاق فرصة عادلة أبداً. بين عامَي 1990 و2005 تمّ تنفيذه وفق نسخة متأثّرة بسوريا، ومنذ عام 2005 تشوّه تطبيقه بصراعات القوى المتنافسة المدعومة بالأسلحة خارج سلطة الدولة.
* باحث وأكاديمي
لقراءة المقال بلغته الأصلية اضغط هنا