كمن يتناول جرعة دواء ثقيلة وينتظر العوارض، تختبر الحياة السياسيّة تبعات انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة خلافاً لرغبة الحزب المطبق بسلاحه على الحياة السياسية منذ عقدين. والسؤال المركزي: هل يكون ذلك مدخلاً لبروز “المعضلة الشيعية”؟ أم لإعادة الانتظام إلى الآليّات الدستورية؟
تحيل لحظة تكليف نوّاف سلام بتشكيل الحكومة من دون أصوات الحزب إلى تلك اللحظة النقيضة قبل 15 عاماً. عام 2011، حين بدا أنّ ميزان الأصوات يرجّح كفّة سعد الحريري لإعادة تكليفه بتشكيل حكومة، تأجّلت الاستشارات برمّتها أسبوعاً كاملاً، ونزل الحزب بقمصانه السود إلى الشارع، فانقلبت نتائج الاستشارات وانتقل التكليف إلى نجيب ميقاتي. بعد 14 عاماً من تلك الواقعة، لم يستطع الحزب تأجيل موعده في الاستشارات حتى صباح اليوم التالي.
هو تحوّلٌ في تاريخ استشارات التكليف بعد عقدين من هيمنة الحزب. فلبنان لم يشهد تكليفاً لأيّ رئيس وزراء من دون موافقة الحزب منذ استشارات ما بعد الانتخابات النيابية عام 2005. وللمفارقة، فإنّ آخر رئيس وزراء تمّ تكليفه من دون أصوات الحزب كان ميقاتي نفسه في الاستشارات التي حُسمت بفارق ضئيل بعد استقالة حكومة عمر كرامي إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
كان ذلك التعبير الثاني عن انقلاب موازين القوى المحلّية والإقليمية، بعد يومين من انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية، رغماً عن إرادة الحزب، لتنتهي بذلك حقبةٌ كان الحزب يعطّل فيها الانتخاب حتى يرضخ الآخرون لانتخاب مرشّحه.
تحيل لحظة تكليف نوّاف سلام بتشكيل الحكومة من دون أصوات الحزب إلى تلك اللحظة النقيضة قبل 15 عاماً
الحزب يتنازعه توجّهان
لا يبدو أنّ الحزب حزم أمره في ردّ الفعل. بل ربّما تتنازعه توجّهات عدّة بين حدّين، أقصاهما إعلان القطيعة والمواجهة مع العهد، وأدناهما التعاطي بواقعية مع الواقع الجديد لتحقيق ما هو أحوج إليه. وفي طليعته إعادة إعمار البيوت المدمّرة في بيئة الحزب، وعدم نزع السلاح شمال الليطاني، والحفاظ على حصّة وازنة في الحكومة والتعيينات في القطاع العامّ. وقد بدا هذا التنازع ممّا تردّد من أنّ كتلة الوفاء للمقاومة كانت في وارد مقاطعة الاستشارات النيابية، من باب إشهار “كارت” الفيتو الميثاقي في وجه تكليف نوّاف سلام، لكنّها آثرت في النهاية الذهاب وإصدار موقفها السياسي من قصر بعبدا، من دون تسمية أحد.
لقد أبقى تصريح رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد في بعبدا الهامش مفتوحاً بين هذين الحدّين، مع ترجيح الثاني منهما. فهو أبقى “كارت” الميثاقية بيده للاستخدام لاحقاً إذا دعت الحاجة. لكنّه أعطى إشارة إلى إمكانية “تركهم يعيشون تجربتهم”. مع إضافة ذات دلالة حين قال: “سنمضي بكلّ هدوء وحكمة حرصاً على المصلحة الوطنية”. وهذا يؤكّد إمكانية استدراك ما فات من خلال التمثيل المباشر أو غير المباشر في تشكيلة الحكومة. أو بالحدّ الأدنى أنّ الحزب، بعد حرب 2024، يضع في حسبانه إمكانية الانضواء في معارضة هادئة من دون اعتصام مسلّح في وسط بيروت أو محاصرة السراي… كما فعل حين استقال وزراؤه من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد حرب تموز 2006. والفرق بين الموقفين يماثل الفرق بين ما انتهت إليه الحربان.
لكنّ كلّ ذلك لا يحجب السؤال المطروح على البساط الوطني: هل يجوز اعتبار ما حدث ضربة للميثاقية وإقصاءً للشيعة؟
لبنان لم يشهد تكليفاً لأيّ رئيس وزراء من دون موافقة الحزب منذ استشارات ما بعد الانتخابات النيابية عام 2005
… “عدم وحدة المسطرة”
يقول الحزب إنّ التكليف حدث خلافاً للميثاقية ليحوز لنفسه حقّ الفيتو على اسم أيّ رئيس وزراء لا يعجبه. وهو بذلك يعطي لنفسه ما لا يعطيه للآخرين. فقد سمح الحزب لنفسه باختيار رئيس الوزراء (السنّي) مرّتين من دون موافقة الغالبية الساحقة من السنّة: مرّة حين فرض اسم ميقاتي عام 2011، وأخرى حين فرض اسم حسّان دياب عام 2020. ولم يجد في ذلك خدشاً للتوافقية والميثاقية، أو نزعة إقصاء وإلغاء. وفوق ذلك، يعتبر الحزب اختيار رئيس مجلس النواب الشيعي شأناً خاصّاً بالشيعة لا يحقّ لأحد من خارجهم المناقشة فيه. لكن حين تصبّ أغلبية الأصوات لغير مرشّحه يعتبر ذلك خديعة، وتنطلق أبواقه بالتهديد بقلب الطاولة.
لكن بمعزلٍ عن عدم وحدة المسطرة لدى الحزب، لا بدّ من الإقرار بالحاجة إلى إحاطة الوضع الشيعي بالعناية في العهد الجديد. فمشكلة النظام السياسي هي التي ولّدت الحزب، وهي التي فتحت لإيران منفذاً إلى شيعة لبنان لتقدّم لهم “وعد” الخروج من دائرة التهميش والانتقال إلى “زمن الانتصارات”. وحقيقة الأمر أنّ الحرمان لم يكن مشكلة طائفية بقدر ما كان مشكلة بين المركز والأطراف. فالحرمان في النبطية وبعلبك والهرمل هو نفسه الحرمان في عكّار وطرابلس وعرسال ورميش وجزّين وراشيا البقاع الغربي. غير أنّ إيران وجدت فيه مادّة للاستثمار، حتى في عهد الشاه قبل الثورة الخمينية.
يقول الحزب إنّ التكليف حدث خلافاً للميثاقية ليحوز لنفسه حقّ الفيتو على اسم أيّ رئيس وزراء لا يعجبه
صراع طبقي – طائفي
ليس هناك من دليل واحد على أنّ شيعة لبنان متعطّشون للسلطة أو للبطش بالآخرين. لكنّه كان صداماً بين الطبقات “التكتونيّة” الاجتماعية، حين دفع الحرمان والعدوان الإسرائيلي بأهل الجنوب والبقاع الشمالي إلى بيروت وجنوبها. شكّلوا هناك حزاماً من البؤس كان النظام الاقتصادي في المدينة بحاجة إليه لتوفير العمالة المنخفضة التكلفة. فنشأ صراعٌ طبقيّ توافرت له الظروف لإعادة التشكّل كصراعٍ بين طائفة تسلّحها إيران بعنوان مقاومة إسرائيل، وطوائف أخرى نزعت منها التوازنات الإقليمية سلاحها.
شكّل السلاح رافعةً لهيمنة الحزب على النظام السياسي، وبات بحدّ ذاته مرادفاً لاقتدار الطائفة واعتدادها بنفسها و”شرفها”، وفق التعبير المتداول على ألسنة مسؤولي الحزب. غير أنّه في لحظةٍ ما، لم يعد ضمانة للرصيد السياسي، بل صار الرصيد السياسي المتراكم موظّفاً لحماية السلاح. وتلك هي ترجمة الشعار الشهير: “الوصيّة الأساس حفظ المقاومة الإسلامية”.
لم يعد الشيعة اليوم بحاجة إلى السلاح لضمان حصّتهم في النظام. بات لديهم من الثروة والتعليم والثقافة والأصوات ما يكفل لهم ذلك وزيادة. وبدلاً من أن يشكّل السلاح رافعة لهذا الرصيد بات الرصيد كلّه موظّفاً لحماية السلاح. استنزفت الطائفة نفسها في الهجوم من أجل الدفاع عنه. برّرت لنفسها اختيار الرئيس ورئيس الوزراء وتعطيل الآليّات الدستورية من أجل “حماية ظهر المقاومة”. وصار اجتياح بيروت في 7 أيّار 2008 مرادفاً لقتال الإسرائيليين في عيتا الشعب.
إقرأ أيضاً: نوّاف سلام: قاضٍ… لبلادٍ عطشى للعدالة
يحتاج الشيعة اليوم إلى التحرّر من “تكليف” حماية السلاح، ومن أن يحملوا على كاهلهم نفوذ إيران في شرق المتوسّط. وسيجدون أنّ السعوديّة ودول الخليج غير معنيّة بزيادة حصّة طائفة أو الانتقاص من حصّة أخرى. بل يعنيهم أن يكون البلد مستقرّاً ومزدهراً ومصدّراً لما كان يصدّره من قبل، لا لما بات يصدّره في العصر الإيراني من حروب ونزعات وتوتّرات طائفية وتهديدات للأمن القومي لدول المنطقة.
ثمّة فرصة داخلية للشيعة في العهد الجديد، على الرغم من كلّ المرارة التي يستشعرونها من خسارة معركة التكليف. فحين يكون رئيس الجمهورية من الجنوب، ورئيس الحكومة حقوقيّاً من الطراز الأوّل، بالإمكان مخاطبة الشيعة كمواطنين، لا كفئة من الأطراف، ولا كطائفة طارئة على النظام السياسي. وهذا هو المفتاح الأوّل للتحرّر من التكليف الذي يفوق الشيعة. فلا السلاح حماهم في الحرب الأخيرة، ولا هم بحاجة إلى استنزاف أنفسهم لحمايته. و”لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها”.
لمتابعة الكاتب على X: