الشائع في انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، أنّ ترشيحه يحدث أن يكون داخلياً، بيد أنّ قرار الاختيار دائماً خارجي. منذ المرّة الأولى اقترن بإرادة ذلك القرار، فسهُل لاحقاً توفير أوسع تأييد له في طبقة سياسية سهلة الانقياد بدورها.
الشائع أيضاً، ما إن يُنتخب قائد للجيش رئيساً، أنّ الطبقة السياسية تنازلت عن حقّ ديمقراطي منوط بها بأن يأتي الرئيس من صفوفها لا من مؤسّسة تأتمر بها. بعد ذاك يُفتح فصل جديد في باب التنازل: هل يكون في وسع القائد بعدما أصبح رئيساً تطويع الطبقة السياسية؟ وأن يرغمها على المضيّ في تقبّل ما لم تقبل به في المرّة الأولى قبل أن تقترع له وتُحمَل عليه؟
دلّت التجربة في المرّات الثلاث لوصول قائد للجيش إلى الرئاسة أعوام 1958 و1998 و2008 على ما لا يكتشفه الرئيس إلّا متأخّراً، وهو عجزه عن أن يحكم في معزل عنها. أو أن يحكم ضدّها. قبل أن يسلّم في أوّل الطريق أو في منتصفها بحاجته إليها للاستمرار في الحكم، وهي جانبه. الأكثر مدعاة للاهتمام إذّاك أن تصبح هي في حاجة إلى بقائه كي تكفل استمرارها في ظلّه.
منذ أن انتخب قبل أقلّ من أسبوع، يُفترض أن يكون الرئيس جوزف عون اكتشف أو أن يكتشف قريباً، أنّ الكثير ممّا عرفه أو اعتاده، سيتغيّر للغاية بعد الآن من حوله. وسيتغيّر فيه هو بالذات، بحيث يصير ما لا يشبه ما كان عليه قبلاً. أمام مهابة المنصب هذه المرّة لا في خدمة الوظيفة، مدعوٌّ إلى مدوّنة سلوك جديدة يقتضي أن يأخذ بها ويتمرّس في أدائها. بعض هذه:
1 ـ يخلع البزّة العسكرية كي يلبس البذلة المدنية ما إن تنبئه بأنّ مرؤوسيه الجدد، بصفته الدستورية رئيس الدولة، ليسوا من طراز الذين عرفهم لعقود طويلة، يخاطبونه وهم واقفون وأيديهم وراء ظهورهم. سيكتشف مغزى تقلّب الأزمان والأحجام والمواقع أن يقف الزعماء والقادة المتغطرسون المتطلّبون يُبكّلون زرْ الجاكيت أمامه ويأذن لهم بالجلوس أو بانتهاء الاجتماع.
أوّل مَن تهيَّب الموقف وأن يفعل من أجيال الأوّلين أمام رئيس، هو رئيس البرلمان صبري حمادة ورئيس الحكومة رشيد كرامي قبل أن يصيرا بعد وقت قصير رأس حربة ترشيح الحاكم الياس سركيس. الأوّل مرّة واحدة عام 1970، والثاني مرّتين عامَي 1970 و1976.
الشائع في انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، أنّ ترشيحه يحدث أن يكون داخلياً، بيد أنّ قرار الاختيار دائماً خارجي
أن لا يكون مديناً لأحد
2 ـ أن لا يكون مديناً بانتخابه للطبقة السياسية التي صوّتت له انطلاقاً من يقين كرّسته التجربة مع ثلاثة من أسلافه قبلاً، انتقل في خلالها القائد من الثكنة إلى القصر: ليس انتخابه سوى ثمرة تعذّر انتخاب سواه من بين المرشّحين المدنيين المتنافسين. هي العبارة – الأمّ لفؤاد شهاب. أدلى بها بعد عودته عن استقالته عام 1960. كي تمسي القاعدة المبرّرة لانتخاب قائد للجيش. ربّما أفضل ما يصحّ للرئيس كي يحكم وأن يكون الحَكَمَ في آن، هو الجحود حيال كلّ مَن أدلى بصوته له.
3 ـ يستبدل المصطلحات التي رافقته على مرّ تجربته العسكرية بأخرى، من المؤكّد أنّها مألوفة على سمعه دونما أن تكون مجرّبة بممارسته إيّاها. لا يأمر فيُطاع كما اعتاد، بل يناقش ويجادل ويُقنع أو لا يقنع. ويتساهل ويُضطرّ إلى المساومة ويتخلّى. يضعف أمام صلاحيّاته الدستورية. يتبصّر في القرار قبل اتّخاذه. ليس وحده هذه المرّة صاحب الإمرة عليه، بل يقتضي إمراره في هيئات تالية لها أن ترفض أو تستجيب، أن توافق أو أن تخذل.
4 ـ يفقد إمرته على الجيش، إذ يمسي له قائد خلف سواه. سلطته عليه بعدذاك رمزية بصفته قائداً أعلى للقوّات المسلّحة. بيد أنّ الإمرة الفعليّة هذه المرّة لسلطة جماعية هي مجلس الوزراء. سيُجرّب الرئيس، ما إن لم يعد قائداً، ما كان اختبره هو بنفسه قبلاً. أن يكتشف أنّ القائد الذي سيحلّ في منصبه سيكون من اليوم الأوّل ابناً للتقليد المتّبع منذ عام 1958. ربّما هذه المرّة يتأكّد من قَدَر كلّ قائد يريد أن يكون رئيساً، فيتحوّل الجيش ندّاً للمؤسّسات الدستورية، وقائده ندّاً لرئيس الدولة.
5 ـ ما يُفترض أن لا يكون قد عرفه في المؤسّسة العسكرية، سيفاجئه في المؤسّسات الدستورية بدءاً من مجلس الوزراء وصولاً إلى مجلس النوّاب، إذ يصير على رأسها كرئيس للدولة، دونما أن يملك وحده مفتاح القرارات: تداخل المناورة بالممالقة، والتودّد بالخداع، والمقايضة بالعرقلة، والانتظام بالمحاصصة والتقاسم.
دلّت التجربة في المرّات الثلاث لوصول قائد للجيش إلى الرئاسة على ما لا يكتشفه الرئيس إلّا متأخّراً، وهو عجزه عن أن يحكم في معزل عنها
كتاب بتفسيرات مختلفة
6 ـ سيجد نفسه أمام كتاب يختلف عن ذاك الذي قاد به الجيش كي يفرض إمرته، والذي لا يُقرأ إلّا بلغة القائد ولا يفرض أحكامه سوى القائد. في كتابه الجديد سيكتشف أنّ من السهولة بمكان قراءة كلٍّ من بنوده بتفسير مختلف، وأحياناً متناقض من أجل أن لا يُطبّق أحياناً. ذلك الكتاب لوطأة عبئه وافتقاره إلى أدوات التنفيذ، حمل فؤاد شهاب على أن يعزو إليه السبب المباشر لعدم الترشّح مجدّداً لرئاسة الجمهورية عام 1970.
7 ـ سيكون على مرّ ولايته أمام امتحان الدستور، وهو تعهّده في خطاب القسم الخميس. على أنّ ثمّة أحداً ما يقتضي تذكير الرئيس بما قد لا يتذكّره اللبنانيون. وهو ما قاله نائب جزّين جان عزيز في جلسة مناقشة مجلس النواب تمنّياً تقدّم به 11 نائباً طلبوا تعديل المادّة 49 مؤقّتاً واستثنائياً لإعادة انتخاب فؤاد شهاب في جلسة 26 أيار 1964. فيها كان جان عزيز أوّل المتحدّثين عندما قال إنّه إذا خُيّر بين الدستور والرئيس يختار الرئيس المنحني للدستور في سني ولايته كلّها.
يومذاك قال نائب جزّين: “كان علينا أن نلتقي ونختار بين دستور هذه حرمته ورجل هذه قِيَمُه (…) قلنا بيننا وبين أنفسنا مع العالِم العربي الكبير مفلسِف علم التاريخ وعلم الاجتماع ابن خلدون: السبب الوجودي أولى من السبب الشرعي”. بالتأكيد رفض الرئيس السابق تجديد ولايته ومضى إلى بيته المتواضع في جونيه.
لم تُقلْ مرّة عبارة جان عزيز في أيّ رئيس آخر بعدذاك، بمَن فيهم أولئك الذين مُدّد لهم. وحده فؤاد شهاب ومن بعده الياس سركيس من دون سواهما ممّن كانوا قبلهما أو أتوا من بعدهما نظرا إلى الكتاب من تحت إلى فوق، لا من فوق إلى تحت.
يُفترض أن يكون الرئيس جوزف عون اكتشف أو أن يكتشف قريباً، أنّ الكثير ممّا عرفه أو اعتاده، سيتغيّر للغاية بعد الآن من حوله
العودة إلى اثنين من أسلافه
8 ـ أن يفعل ما فعله اثنان فقط من أسلافه:
طلب فؤاد شهاب بُعيد انتخابه الإتيان له بمحاضر اجتماعات بشارة الخوري مع القادة العرب كالملك عبدالعزيز وشكري القوّتلي وجميل بك مردم وخالد العظم وملك الأردن عبدالله والأمير عبدالإله الوصيّ على عرش العراق ومصطفى النحّاس باشا… كي يعرف كيف أدار لبنان علاقاته العربية، وهو البلد الموسوم حينذاك بأنّه بلد مسيحي لأنّ رئيسه مسيحي.
طلب بشير الجميّل فور انتخابه الإتيان له بمحضر اجتماع الخيمة في 25 آذار 1959 بين جمال عبدالناصر وفؤاد شهاب الذي أتاح استقراراً داخلياً للبنان وحياداً عن النزاعات الإقليمية من حوله سنوات الولاية الست. لم يُعثر على محضر اجتماع الخيمة لأنّه لا محضر دُوِّن آنذاك واقتصر الأمر على حوار شفهي بين الرئيسين.
إقرأ أيضاً: ولادة الجمهورية الثالثة: نهاية زمن السلاح… والطوائف