ميقاتي والشّرع: مرحلة انتقاليّة واحدة… في بلدين

مدة القراءة 8 د

دمشق

لطالما كان نجيب ميقاتي رجل المراحل الانتقالية. وقليلاً ما كان لبنان مستقرّاً. كأنّي به وطناً انتقاليّاً في حالة ترحالٍ دائمٍ، من خضّةٍ إلى أزمةٍ، ومن انهيارٍ إلى هبوط. وبالتأكيد لم يكن انتقاليّاً كما هي حاله اليوم. فلبنان الخارج من سنوات الوصاية السوريّة، ثمّ من تلك الإيرانية حديثاً، ها هو يدخل مع أهله، أفواجاً، في دين العروبة والشرعيّة الدولية.

أمس، كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في الشام، مع وفد أمنيّ رفيع، تقدّمه مدير المخابرات في الجيش العميد طوني قهوجي، والمدير العامّ للأمن العامّ اللواء الياس البيسري، ونائب المدير العامّ لأمن الدّولة العميد حسن شقير. وكان لقاء امتدّ لساعات، وتخلّله غداء، ثمّ مؤتمر صحافي، مع قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع… فماذا دار في هذا اللقاء؟ وإلى أين خلُصَ؟

أطلّ نجيب ميقاتي على السراي الحكومي في عام 2005. كانت لحظة انتقال لبنان من تحت دلفة نظام بشّار الأسد، إلى تحت مزراب نظام الملالي. كانت دماء رفيق الحريري تسيل على جبين وسط بيروت. وكان المشروع الإيراني يتوثّب ليبدأ رحلة الدم والحديد والنار، من وسط بيروت إلى صنعاء، مروراً بسوريا والعراق وعواصم عربية أخرى بقيت عصيّةً على ميليشياته.

أمس، كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في الشام، مع وفد أمنيّ رفيع، تقدّمه مدير المخابرات في الجيش العميد طوني قهوجي، والمدير العامّ للأمن العامّ اللواء الياس البيسري

دخل المشروع الإيراني ودم رفيق الحريري يرتقي فوق دموع بيروت. وها هو يخرج وروح السيّد حسن نصرالله ترتقي فوق دموع الجنوب والبقاع والضاحية. وفي لحظة الدخول، اجتمع المختلفون على اسم نجيب ميقاتي. فكان رئيس المرحلة الانتقالية التي أشرفت على الانتخابات النيابية في ذلك العام.

ها هو المشروع الإيراني، فيما يخرج، لن تجد أغلبية المختلفين غير اسم ميقاتي يجتمعون عليه، في الداخل والخارج، لتكليفه تشكيل حكومة بعد الاستشارات النيابية في قصر بعبدا غداً، على أن يُجري مشاورات في يومين. وأن يذهب إلى تشكيلة سريعة تقول للعالم إنّ كلّ شيء في لبنان تغيّر. وإنّ المماطلة التي كان يشهدها عهد الرئيس ميشال عون انتهت إلى غير رجعة. وإنّ الأزمة ليست في النظام السياسي اللبناني، بل في العقليّات والأشخاص.

دخل المشروع الإيراني ودم رفيق الحريري يرتقي فوق دموع بيروت. وها هو يخرج وروح السيّد حسن نصرالله ترتقي فوق دموع الجنوب والبقاع والضاحية

الشّرع المحترف… وفريقه السّريع التّعلّم

خلافاً للزيارة السابقة، مع وليد بك جنبلاط، كان فريق الشرع هذه المرّة شديد التنظيم. الموظّفون محترفون. البروتوكول على أصوله. التفتيش الأمنيّ دقيق. الاستقبال والوداع رسميّان… حتّى إنّ الفريق اعترض على اصطحاب إعلاميين من لبنان، خوفاً من تكرار ما جرى في المرّة السابقة من فوضى، بسبب عشرات المصوّرين والتقنيّين الذين رافقوا الإعلاميين.

لكنّ الوفد الذي طار على أجنحة “طيران الشرق الأوسط MEA”، لحق به المراسلون وكاميراتهم برّاً عن طريق المصنع الذي فتح أبوابه أمامهم. ووصلوا قبل المؤتمر الصحافي المشترك.

كان الانطباع الأوّليّ أنّه خلال أسابيع قليلة اكتسب فريق الشّرع حرفيّةً استثنائية في التنظيم. وكانت انطباعات الوفد اللبناني أنّ القائد الجديد لسوريا يتعلّم بسرعة كبيرة جدّاً. وأنّ ما يقوم به يستند إلى أرضيّة معرفيّة صلبة، وإلى رؤية كبيرة قادرة على نقل سوريا إلى الاستقرار.

خلافاً للزيارة السابقة، مع وليد بك جنبلاط، كان فريق الشرع هذه المرّة شديد التنظيم. الموظّفون محترفون. البروتوكول على أصوله

لم يعد الشّرع يفكّر بعقلية الثورة. في عقله انتهى العمل العسكري وبدأت رحلة بناء الدولة، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. بناء سوريا الحديثة. سوريا التي، مثل دول المشرق، جرّبت الثورات والأفكار، من قومية عربية وثورات إسلامية… وحان الوقت كي تنظر إلى نفسها بعين المستقبل، وبمنظار جديد لا يمتّ إلى الماضي بصِلة.

لهذا جدّد الشرع دعوة اللبنانيين إلى أن “يصرفوا النظر عن ذهنيّة العلاقة السورية السابقة مع لبنان وما تبعها من أضرار على الشعبين السوري واللبناني”. ووعد بالوقوف “على مسافة واحدة من الجميع في لبنان، وسنحاول معالجة كلّ المشاكل عبر الحوار”.

وبالتالي “جرى الاتفاق على أن تكون هناك لجان مختصّة لدراسة كلّ النقاط المشتركة بشكل مفصّل”. وكان أن خرج أعضاء الوفد الأمنيّ من الاجتماع، واجتمعوا مع نظرائهم السوريين، لبحث المشاكل الحدودية بين البلدين وأزمة إقفال معبر المصنع. وقال اللواء البيسري لـ”أساس” إنّ الحلول ستكون قريبة.

لم يعد الشّرع يفكّر بعقلية الثورة. في عقله انتهى العمل العسكري وبدأت رحلة بناء الدولة، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً

حصر السّلاح بيد الدّولة

ليست صدفة أن يقول الشرع ما قاله رئيس جمهورية لبنان العماد جوزف عون في خطاب قسمه قبل ساعات فقط: “أولويّتنا ترتيب الوضع الداخلي وضبط الأمن وحصر السلاح بيد الدولة وطمأنة دول الجوار”.

للمرّة الأولى تبدو حكاية “وحدة المسار والمصير” حقيقية بين لبنان وسوريا. فالبلدان يسلكان درب الخروج من تحت الكمّاشة الإيرانية، ويبدآن رحلة بناء الدولة. والأولويّة الأولى هي “حصر السلاح بيد الدولة”، وإعادة الاستقرار، تمهيداً لفتح البرامج الاقتصادية والماليّة.

لهذا سأل الشّرع عن “ودائع السوريين في مصارف لبنان”. ودار حديث اقتصادي، خصوصاً أنّ الرئيس ميقاتي يأتي من خلفيّة اقتصادية واستثمارية. ولديه خبرة في الاقتصادين اللبناني والسوري.

للمرّة الأولى تبدو حكاية “وحدة المسار والمصير” حقيقية بين لبنان وسوريا. فالبلدان يسلكان درب الخروج من تحت الكمّاشة الإيرانية

مزارع شبعا: “من السابق لأوانه…”

حين سُئِل، داخل الاجتماع، ثمّ في المؤتمر الصحافي، عن مزارع شبعا، أجاب بأنّ “من السابق لأوانه معالجة هذا الموضوع”، وأنّه “يحتاج إلى المزيد من الوقت”، وبالتالي لا يوجد تصوّر واضح لدى الإدارة السورية حول هويّة مزارع شبعا، وحقّ السيادة عليها، إن كان لبنانياً أو سوريّاً.

بالطبع هناك نيّة لحلّ الخلافات الحدودية، التي لا تبدأ في شبعا، ولا تنتهي في الشمال والشرق، أو في البحر وغازه. وما أدراك ما البحر وغازه. لكنّ الإدارة الجديدة لديها أولويّات داخلية ضاغطة، ولا تملك ترف الوقت لتشكيل اللجان المطلوبة وقيادة النقاشات الطويلة وفتح خلافات مع لبنان أو إسرائيل.

هكذا يبدو ملفّ شبعا أكثر صعوبة ممّا اعتقد البعض. حين كان أغلب الظنّ أنّ أيّ نظام جديد سيحسم هذه المسألة سريعاً. لأنّ سوريا الجديدة لا تستطيع أن تتخلّى عن هذه الأرض. ولا تستطيع أن تختلف مع لبنان عليها. وهناك العقدة الإسرائيلية التي يحاول النظام الجديد الابتعاد عنها.

يبدو ملفّ شبعا أكثر صعوبة ممّا اعتقد البعض، حين كان أغلب الظنّ أنّ أيّ نظام جديد سيحسم هذه المسألة سريعاً

المفقودون اللّبنانيّون… DNA

أوساط الوفد اللبناني توافق الشّرع على ضرورة عدم ربط العلاقات الثنائية بموضوع الترسيم الحدودي، البرّي والبحري. وتدعو إلى الذهاب نحو الملفّات الضاغطة، مثل المعابر الشرعية وغير الشرعية. حيث المهرّبون والخارجون على القانون يتسبّبون بالأذى للبلدين. ويساهمون في توتير العلاقات السياسية. وبالتالي من مصلحة الحكومتين محاربتهم يداً واحدة.

بحث الجانبان أيضاً تسليم السجناء السوريين في لبنان حسب الأصول القانونية. وجرى بحث جدّيّ في موضوع المفقودين اللبنانيين في سجون النظام السابق “لنعرف مصيرهم كاملاً”. ويبدو أنّ المسألة تحتاج إلى فرق متخصّصة لفحص الـDNA في المقابر الجماعية التي يتمّ العثور عليها.

في السياسة قد يصير المؤقّت دائماً. والشّرع باقٍ لسنوات أربعة كما طلب، ريثما تتمّ كتابة الدستور والدعوة إلى انتخابات

بلدان.. المؤقّت والدّائم

هي “مرحلة انتقالية واحدة في بلدين”، على وزن ما كان يسوّق نظام الأسد من سردية “شعب واحد في بلدين”. فلبنان وسوريا اليوم على سكّة دوليّة مشتركة. تلوح ظلال أميركا في خلفيّة العلمين، السوري واللبناني، اللذين رفرفا خلف ميقاتي والشرع، حين مشى الأخير إلى الباب الخارجي لاستقبال الوفد اللبناني استقبالاً عزيزاً.

في السياسة قد يصير المؤقّت دائماً. والشّرع باقٍ لسنوات أربعة كما طلب، ريثما تتمّ كتابة الدستور والدعوة إلى انتخابات. فيما ميقاتي ترتفع أسهم بقائه في السراي اللبناني الكبير، كي يكمل عامه الرابع في انتخابات 2026 النيابية، في ولايته الرابعة، بعد 2005 و2011 و2022. وقد تمنّى له الشرع إعادة تكليفه، وتمنّى التوفيق للرئيس جوزف عون.

إقرأ أيضاً: جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

هو الذي دخل السراي لأوّل مرّة حين أطلّ مشروع إيران من وسط بيروت عابراً فوق طنّ من الديناميت ذات 14 شباط 2005. الأرجح أن توكل إليه مهمّة فتح الباب مرّة أخرى، ليودّع هذا المشروع على أنقاض أطنان من المتفجّرات في جنوب لبنان وبقاعه وضاحيتنا الجنوبية.

لمتابعة الكاتب على X:

@mdbarakat

مواضيع ذات صلة

دمشق تدخّلت إيجاباً… في انتخاب عون

في 15 كانون الأوّل 2024، أي بعد أسبوع من سقوط نظام الأسد في سوريا، نقلت وسائل الإعلام موقفاً لقائد الإدارة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع،…

العراق: السوداني “يرفض” توجيهات المرشد الإيراني..

وصل رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني إلى العاصمة الإيرانية طهران، في زيارة سريعة ليوم واحد، التقى فيها الرئيس مسعود بزشكيان وتباحث معه في الموضوعات…

برّي استوعب باكراً التّغيير في سوريا فاعتمد “التّوافق”

لا جدال في حقّ النوّاب، لا سيما التغييريّين، الذين اعترضوا على تدخّل “القناصل” في تحديد اسم رئيس لبنان ورفضهم المسّ بـ”السيادة”. إلّا أنّ اتّخاذ البعض…

خطاب القَسَم المكتوب “بالسّكين”..

يقف الرجل في ناصية البرلمان. الأنظار كلّها مشدودة إليه. والجميع يريد أن يسمع أوّل كلامه السياسي، بعد رحلته المستدامة مع العسكر. كان خطابه مدوّياً ومهولاً،…