يبدو من الأسهل إقناع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة بخسارة سوريا، أكثر من إقناعها بخسارة لبنان. هذا ما يكشفه الخطاب الأخير للأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم الذي هدّد فيه إسرائيل بمتابعة الحرب. جاء بعد ذلك الكلام الاستفزازي الصادر عن وفيق صفا القيادي في “الحزب”، الذي لم يكتفِ بوضع فيتو على وصول سمير جعجع إلى رئاسة الجمهوريّة، بل ذهب إلى تأكيد قرب مطار رفيق الحريري الدولي من الضاحية الجنوبيّة. بدا وكأنّه يعتبر المطار تابعاً لدويلة “الحزب” التي كانت إلى ما قبل فترة قصيرة الدولة اللبنانية.
يظهر أنّ إيران وجدت وظيفة جديدة – قديمة لـ”الحزب”. إنّها وظيفة الارتداد على الداخل اللبناني بغضّ النظر عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو أمر بات وارداً جدّاً، أو بقي هذا الموقع شاغراً. هل يستطيع “الحزب” في عام 2025 تكرار تجربة ما بعد حرب صيف 2006 حين تظاهر بقبول القرار 1701، لكنّه ما لبث أن خرق كلّ بند من بنوده، متذرّعاً بتفسير خاصّ به للقرار الذي هو في أساس اتّفاق وقف النار الأخير مع إسرائيل؟
في عام 2025، ثمّة واقع جديد في المنطقة ولد من رحم “طوفان الأقصى”، الذي بدأ بهجوم شنّته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023 على مستوطنات غلاف غزة. لا تزال تفاعلات “طوفان الأقصى” مستمرّة إلى يومنا هذا… بعدما بلغت هذه التفاعلات سوريا، آخذة في طريقها النظام العلويّ السوري الذي كان، من منطلق مذهبي، حليفاً أميناً لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” منذ اليوم الأوّل لقيامها في عام 1979. يستحيل تجاهل أنّ هذه التفاعلات أخذت أيضاً في طريقها “الحزب” درّة التاج في المشروع التوسّعي الإيراني، الذي كانت له انطلاقة جديدة بعد الحرب الأميركية على العراق في عام 2003.
على إيران التعايش مع منطقة جديدة لم تعد فيها سوريا دولة تدور في فلكها وممرّاً للسلاح والأموال التي ترسلها إلى “الحزب”
كانت النتيجة الوحيدة لتلك الحرب تسليم الولايات المتحدة العراق على صحن من فضّة إلى إيران، مع ما يعنيه ذلك من نسف للتوازن الإقليمي، خصوصاً أنّ “الحدود بين العراق وإيران”، على حدّ قول الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، “ليست حدوداً بين دولتين بمقدار ما هي حدود تاريخيّة بين حضارتين، هما الحضارة الفارسية والحضارة العربيّة”. برّر ميتران تدخّل بلاده إلى جانب العراق في بداية حرب السنوات الثماني مع إيران في عام 1980 بالمحافظة على التوازن الإقليمي بين العرب والفرس.
تصحيح لمعادلة 2003
يشكّل ما حصل بعد سقوط النظام السوري تصحيحاً لمعادلة سادت منذ 2003، كان لبنان من بين أبرز ضحاياها. مثل هذا التغيير في المعادلة الإقليميّة يجعل العودة إلى مرحلة ما بعد حرب صيف 2006 أمراً مستبعداً. هذا ما لم تستطع “الجمهوريّة الإسلاميّة” استيعابه في حين يبدو “الحزب”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، مغلوباً على أمره لا أكثر.
تغيّرت المنطقة. ليس ما يشير إلى أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” قادرة على التكيّف مع هذا التغيير الجذري. لا يقتصر إنكار الواقع على “الحزب” الذي يتجاهل ما أصاب قرى جنوب لبنان من دمار والخسائر التي لحقت به نفسه بدءاً بمقتل كبار قادته، على رأسهم الراحل حسن نصرالله. هناك حال ضياع إيرانيّة يخشى أن يدفع لبنان ثمنها.
طلبات إيرانيّة جديدة
ما يدعو إلى الخوف، أكثر ما يدعو، عدم اكتراث “الجمهوريّة الإسلاميّة” بما يحلّ بلبنان واللبنانيين وأبناء الطائفة الشيعيّة على وجه التحديد. أكثر من ذلك، يبدو أنّ هناك طلبات إيرانيّة جديدة من “الحزب”. تفترض هذه الطلبات أنّ “الحزب” خرج منتصراً من “حرب إسناد غزّة”، كما تفترض أنّ سوريا ما زالت تحت سيطرة آل الأسد.
على الصعيد اللبناني، من المهمّ في المرحلة الراهنة التوقّف عن العيش في الأوهام
الواقع أنّ هزيمة كبيرة من النوع الذي لا سابق له لحقت بـ”الحزب”. أمّا بالنسبة إلى سوريا، فالأمر الوحيد الأكيد هو أنّ النظام الجديد، الذي لم تتبلور طبيعته بعد، طوى إلى غير رجعة صفحة الحكم العلويّ. ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” أخذ العلم بأنّ سوريا، في ضوء الممارسات الإيرانية أو تلك التي لجأ إليها “الحزب”، تحوّلت إلى دولة معادية كلّياً للتوجّهات والممارسات الإيرانية في المنطقة، خصوصاً مشروع “الحرس الثوري” وميليشياته.
مرّة أخرى، يبدو مفيداً التذكير بأنّ سوريا الجديدة هي سوريا الخالية من الوجود الإيراني ومن وجود “الحزب”. في النهاية، عندما رفعت إسرائيل الغطاء عن النظام السوري، فرّ بشّار الأسد إلى موسكو، وبات فلاديمير بوتين يرفض التحدّث إليه.
أمّا إيران فلم تستطع، استناداً إلى كامل صقر مدير المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهوريّة، إرسال طائرة تحمل أسلحة إلى سوريا. منع الأميركيون الطائرة الإيرانية من عبور الأجواء العراقيّة. كشف صقر تفاصيل الأيّام الأخيرة لبشّار في دمشق في لقاء مع الزميل حسين الشيخ من “العربيّة”. يروي المدير السابق للمكتب الإعلامي في قصر الرئاسة بالتفاصيل المملّة كيف انتهى حكم آل الأسد في غضون أيّام قليلة… في ظلّ عجز إيراني.
لبنان والعيش في الأوهام
على الصعيد اللبناني، من المهمّ في المرحلة الراهنة التوقّف عن العيش في الأوهام، خصوصاً لجهة الاعتقاد أنّ في الإمكان استعادة تجربة ما بعد حرب صيف 2006. يجب على تحالف سياسي واسع يضمّ لبنانيّين من كلّ الفئات الوقوف في وجه ما ينادي به “الحزب” وإيران. لن يفيد بقاء لبنان رهينة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في شيء.
يبدو “الحزب”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، مغلوباً على أمره لا أكثر
كلّ ما في الأمر أنّ على إيران التعايش مع منطقة جديدة لم تعد فيها سوريا دولة تدور في فلكها وممرّاً للسلاح والأموال التي ترسلها إلى “الحزب”. في الوقت ذاته، بات لبنان تحت المراقبة الشديدة إسرائيلياً وإقليمياً وعربياً ودولياً. لا مجال للتذاكي في ما يخصّ تفسير نصَّي القرار 1701 واتّفاق وقف النار الأخير.
إقرأ أيضاً: إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..
السؤال هو: هل يريد “الحزب”، ومن خلفه إيران، التخلّص من الاحتلال الإسرائيلي الجديد لأراضٍ لبنانية أم جرّ البلد إلى حرب جديدة، حرب يرتدّ فيها “الحزب” على الداخل اللبناني بعدما ثبت أنّ موازين القوى لا تسمح له بردع إسرائيل ولا بأيّ مقاومة من أيّ نوع؟
لمتابعة الكاتب على X: