لماذا يكرهون الإمارات؟

مدة القراءة 7 د

أخرجت لحظة وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في سوريا، أعداء دولة الإمارات العربية المتّحدة من جحورهم. فعلى الرغم من البراغماتيّة اللافتة في أداء قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، ومقاربته الهادئة لعلاقات سوريا الجديدة مع محيطها العربي، بما في ذلك أبوظبي، إلّا أنّ ذلك لم يمنع الحملة الشعواء على الإمارات وقيادتها السياسية من قبل الإخوان وفصائل إسلامية أخرى. لماذا؟

حقيقة الأمر أنّ هذه الأصوات لا تهاجم الإمارات لسياساتها فقط، بل تعلن العداء لنموذجها التنموي والإداري والسياسي والاجتماعي، الذي يقدّم رؤية مختلفة جذرياً عن تلك التي يروّج لها الإسلام السياسي بكلّ أشكاله. وهي تعبير عن أزمة الأيديولوجيات الإسلامية السياسية العميقة، حيال ما تراه في نجاح الإمارات من تحدٍّ وجوديّ لها.

لم تقدّم أبوظبي نموذج الدولة الناجحة فقط، بل باتت تعدّ اختباراً عربيّاً ملهماً في دولة مسلمة نجحت في تحقيق التنمية والاستقرار خارج إطار شعارَي “الإسلام هو الحلّ” أو “المقاومة هي الحلّ”، وأثبتت أنّ النجاح ممكن من خلال الحوكمة الرشيدة والابتكار والانفتاح من دون الحاجة إلى الأيديولوجيّات الجامدة أو الصراعات الأزليّة.

أخرجت لحظة وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في سوريا، أعداء دولة الإمارات العربية المتّحدة من جحورهم

نجاحات الإمارات عالميّاً

يُثبت نجاح هذا النموذج تَصدُّر الإمارات في عام 2024 أعلى المراتب في العالم وفق 223 مؤشّراً تنافسيّاً. فهي حلّت في المرتبة الأولى عالمياً على مستوى مؤشّرات البنية التحتية الرقمية، وجودة الطيران والنقل، وريادة الأعمال، والثانية عالميّاً على مستوى مؤشّر الأداء الاقتصادي، والرابعة على مستوى كفاءة الحكومة.

تتربّع دبي وأبوظبي بين المدن الخمسة الأولى في العالم الجاذبة للمواهب والعمالة المحترفة. في حين تقود الإمارات مؤشّر تدفّق الثروات بنجاحها في استقطاب أكثر من 6,700 مليونير في 2024، وهو أعلى رقم في العالم.

لم تأتِ هذه الإنجازات من فراغ، بل هي نتيجة استثمارات طويلة الأمد في التعليم، التكنولوجيا، الحوكمة الرشيدة، والرؤى الاقتصادية المحترفة، مثل أجندة دبي “D33” ورؤية أبوظبي 2030 التي ترتكز على تعزيز الابتكار والنموّ المستدام، واتّفاقات التجارة الحرّة وتهيئة بيئات متسامحة حاضنة للتعدّد والتنوّع وفق قيم الأخوّة الإنسانية الجامعة.

تتربّع دبي وأبوظبي بين المدن الخمسة الأولى في العالم الجاذبة للمواهب والعمالة المحترفة

استناداً إلى نتائج “استطلاع رأي الشباب العربي – 2023” سنجد أنّ أولويّات الشباب العربي تتلخّص في فرص العمل والاستقرار الاقتصادي، التعليم الجيّد، ريادة الأعمال ودعم الابتكار، الاستقرار والأمن، وتحسين جودة الحياة. تضع هذه الأولويّات الإمارات في طليعة الدول الجاذبة للشباب العربي، مؤكّدةً تفوّقها على نماذج الأنظمة العقائدية القومية والبعثية والإسلامية والمقاومتيّة.

تأثير الإمارات… أبعد من حدودها

في هذا السياق يخطىء من يحصر الإمارات في حدودها الجغرافيّة أو عدد سكّانها، ليقلّل من استراتيجية النموذج الذي تمثّله.

ولئن كان النموذج التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية هو أبرز اختبارات الإسلام السياسي في الحكم وأرقاها، فإنّ مآلات التجربة تثبت حدود ما يمكن أن تذهب إليه الأنظمة العقائدية بشأن التحديث والمصالحة مع متطلّبات وشروط الاقتصاد الرأسمالي الحديث.

شكّل الاختبار التركي في بداياته تجربة واعدة للإسلام السياسي، وقدّم نفسه واجهةً ورافعةً للإسلام السياسي المعتدل في المنطقة، متبنّياً خطاباً ديمقراطيّاً متماشياً مع النظام الرأسمالي العالمي، عبر سياسات فتح الأسواق، وتعزيز الصادرات، والخصخصة، والسعي إلى التكامل مع الاتّحاد الأوروبي.

شكّل الاختبار التركي في بداياته تجربة واعدة للإسلام السياسي، وقدّم نفسه واجهةً ورافعةً للإسلام السياسي المعتدل في المنطقة

فشل الإسلام السّياسيّ في تركيا ومصر والسّودان 

بيد أنّ التناقض بين الأيديولوجية ومتطلّبات الاقتصاد الحديث سرعان ما ظهر وتصاعد. وهو ما دفع الرئيس رجب طيّب إردوغان وحزبه إلى تغليب الولاء الأيديولوجي على الكفاءة والسعي إلى حماية السلطة الإسلامية عبر سياسات شعبوية قاتلة. أسهم هذا النهج في تراجع الأداء الإداري والاقتصادي، وكرّس نظام حكم فرديّاً استهدف القضاء والإعلام والمعارضة. تجلّى هذا التوجّه بشكل واضح في حقبة ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، حيث طغت الشهيّة الأيديولوجيّة لدى تركيا بقيادة إردوغان على مشروع التحديث الاقتصادي. وقد أدّت السياسة الخارجية التركية في تلك الفترة، القائمة على دعم تيّارات الإخوان المسلمين، إلى زعزعة الاستقرار السياسي الداخلي، وعزل البلاد عن محيطها الاقتصادي الطبيعي. وهو ما أضعف قدرتها على جذب الاستثمارات وأدّى إلى تراجع الثقة الدوليّة وهروب رؤوس الأموال.

في النهاية، أظهرت تجربة تركيا أنّ نجاح الإسلام السياسي في الاقتصاد الحديث قد يكون ممكناً لفترة محدودة، لكنّه غير مستدام بسبب تناقض الأيديولوجية مع متطلّبات العولمة والنظام الرأسمالي. وعليه تواجه الأحزاب الإسلامية صعوبة في تقديم حلول اقتصادية مستدامة بسبب أولوية قناعاتها العقائدية، بينما تفتقر معظم هذه التيارات إلى الكفاءة والبراغماتية الضرورية لإدارة اقتصاد حديث، كما ظهر في مصر 2012 والسودان الذي استخدم الشريعة كغطاء للفشل، وكما يظهر جليّاً في العراق اليوم.

في المقابل تعتمد الإمارات فلسفة حكم تحترم القيم الإسلامية بمعناها المجرّد، من دون أن تستخدم الدين أداةً سياسية، مع التركيز على فصل الدين عن السياسة، وترسيخ قيم التسامح والتعدّدية في بيئة حاضنة لأكثر من 200 جنسيّة بمختلف دياناتها وثقافاتها، واعتماد معيار التنمية ورفع مستوى معيشة الإنسان هدفاً أسمى ومصدراً للشرعية في تجاوز واضح  للشعارات الأيديولوجيّة في هذا المجال.

أظهرت تجربة تركيا أنّ نجاح الإسلام السياسي في الاقتصاد الحديث قد يكون ممكناً لفترة محدودة، لكنّه غير مستدام بسبب تناقض الأيديولوجية مع متطلّبات العولمة والنظام الرأسمالي

يشكّل نجاح الإمارات تهديداً وجوديّاً للإسلام السياسي من خلال قدرته على كشف زيف هذا النموذج وإفلاس شعاراته. فما تقدّمه أبوظبي هو استراتيجيات الاستقرار في مقابل استراتيجيات الاستقطاب مع كلّ ما يلحق ذلك من تألّق نموذج “الحكم الرشيد” المبنيّ على سيادة القانون وتطوير المؤسّسات، و”التنمية الشاملة” القائمة على الاستثمار في الإنسان والبنية التحتية، و”الدبلوماسية البراغماتيّة” الساعية إلى بناء علاقات دولية متوازنة مع الغرب والشرق، وتعزيز فرص التكامل الشامل في المنطقة بما في ذلك السلام مع إسرائيل.

أعطت هذه السياسات الإمارات موقعاً متقدماً بين الدول العربية الباحثة عن النجاح خارج إطار الأيديولوجيات، ورمزاً لفكرة دولتيّة جديدة في الشرق الأوسط الكبير قادرة على تحقيق التنمية والاستقرار دون التبعية للأيديولوجيات الجامدة أو الصراعات الدائمة. وهذا ما يجعلها عرضة لهجمات مَن تفضحهم. غير أنّ نموذج الإمارات ليس فقط تحدّياً للإسلام السياسي، بل فرصة للمنطقة لتبني طريقاً جديداً نحو التقدّم يرفع مؤشّرات واقعية لقياس النجاح لا شعارات الإسلام السياسي الفارغة.

إقرأ أيضاً: هذا هو الرّئيس!

لمتابعة الكاتب على X:

@NadimKoteich

مواضيع ذات صلة

سوريا الجديدة: نبوءة لم تتحقّق وسرّان كبيران

منذ الستّينيات تنبأ حنّا بطاطو الأستاذ يومها بالجامعة الأميركية ببيروت أنّ مشكلات داخلية كبرى ستحصل بالعراق لأسباب إثنية ودينية وجغرافية، فليس هناك شعب عراقي، وإنّما…

سوريا تسبق لبنان إلى الحاضنة العربيّة

هل تسبق سوريا لبنان إلى الانضواء تحت الحاضنة العربية في سياق الجهد الدولي العربي لإخراج البلدين من العباءة الإيرانية وعدوانيّة إسرائيل؟ في لبنان ما زالت…

السّعوديّة… “احتضان” اللّحظة السّوريّة

كانت لافتةً السرعة التي تفاعلت بها السعودية مع الحدث السوري الكبير. لا تردّد، لا تحفّظ، لا تريّث، ولا وقت للتأمّل والانتظار. بعد ساعات من إعلان…

سمير عسّاف: مرشّح لا يعرفه ناخبوه

مرّت على الرئاسة اللبنانية، قبل الاستقلال كما بعده، صنوف من البشر: المحامي والضابط والوزير والنائب والسفير والإداري والتاجر، الأمير والزعيم والخارج من بيت فقير متواضع،…