عام 2024 شهد لبنان استمراراً في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية بشكل يعكس أزمة هيكلية متعدّدة الأوجه. كان الفراغ الرئاسي والجمود السياسي مظاهر واضحة لعجز النخب الحاكمة عن تجاوز الانقسامات لتحقيق أيّ نوع من التوافق الوطني، وهو ما أضعف الثقة الداخلية والخارجية بمستقبل البلاد.
من الناحية الاقتصادية، تسارعت “دولرة” الاقتصاد، حيث فرضت الحكومة تحويل إيراداتها بالكامل إلى الدولار، استمراراً لاتّجاه بدأه القطاع الخاصّ في 2023. يعكس هذا التوجّه انعدام الثقة بالليرة اللبنانية، التي فقدت معظم قيمتها، وهو ما أدّى إلى هيمنة الدولار على التعاملات الماليّة اليومية، وبالتالي تراجع السيادة النقدية بشكل كبير. السياسات النقدية المتّبعة، التي اتّسمت بعدم الاتّساق، فاقمت الوضع. تعديل سعر الصرف الرسمي بشكل حادّ أدّى إلى تضخّم إضافي، فيما فشلت سياسات مصرف لبنان في خلق أيّ نوع من الاستقرار الماليّ المستدام، وهنا لا أقصد الاستقرار النقدي الذي ينعم به لبنان.
في ما يتعلّق بالنظام المالي، لم تتمكّن المصارف التجارية من استعادة ثقة المودعين أو تحقيق أيّ تقدّم ملموس في حلّ أزمة الودائع المتعثّرة. يعكس اللجوء إلى فوائد مرتفعة على الودائع بالليرة محاولةً استباقيةً لتخفيف الأعباء من خلال “ليلرة” الودائع، لكن في ظلّ غياب إصلاحات هيكلية قد يؤدّي ذلك إلى تضخّم مخاطر إضافية على المدى المتوسّط. على المستويين التشريعي والتنفيذي، لم يتمّ إحراز تقدّم في تنفيذ خطّة إنقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. استمرّت السلطة الحاكمة في التركيز على الحفاظ على مواقعها السياسية بدلاً من إجراء إصلاحات جوهرية.
من جهة أخرى، وضعُ لبنان على “اللائحة الرمادية” من قبل مجموعة العمل المالي (FATF) سلّط الضوء على هشاشة النظام المالي والاقتصادي في مواجهة التحدّيات الدولية. قد تؤدّي تبعات هذا التصنيف إلى عزلة ماليّة أكبر، وهو ما يضعف قدرة البلاد على جذب الاستثمارات أو التعامل مع النظام المصرفي العالمي.
يعكس المشهد في لبنان لعام 2024 إخفاقاً مستمرّاً في التعاطي مع الأزمات من منظور شموليّ ومستدام
اجتماعيّاً، أثّرت السياسات الاقتصادية الكارثية على الفئات الأكثر ضعفاً، فارتفعت مستويات الفقر والبطالة بشكل حادّ. الاعتماد المتزايد على الاقتصاد غير الرسمي، في غياب حلول سياسية واقتصادية متكاملة، يزيد من تعميق الانقسامات الاجتماعية ويهدّد بنشوء نسيج اجتماعي هشّ بالفعل.
يعكس المشهد في لبنان لعام 2024 إخفاقاً مستمرّاً في التعاطي مع الأزمات من منظور شموليّ ومستدام. يتطلّب الخروج من هذه الحلقة المفرغة تعاوناً حقيقياً بين جميع القوى السياسية، وتنفيذ إصلاحات هيكلية عميقة تشمل النظام المالي والاقتصادي والسياسي، وقد تكون هناك حاجة للنظر في صوابية النظام المجتمعي والاجتماعي. بدون ذلك، سيظلّ لبنان عالقاً في أزمة وجودية تتجاوز الاقتصاد إلى تهديدات تمسّ بقاءه كدولة مستقلّة.
محطات أساسية في 2024
للأسف لن يكن الفراغ الرئاسي حدثاً ذا قيمة في مذكّرات اللبنانيين لعام 2024، وغيابه، أي رئيس الجمهورية، عن احتفال الاستقلال الرسمي كان أخفّ ثقلاً من غياب الاستقلال ذاته عن هذه المناسبة. لكن في المشهد النقدي كانت هناك محطّات عديدة. من أهمّها:
1- تعديل سعر الصرف الرسمي للدولار في 18 كانون الأوّل 2023 مقابل الليرة اللبنانية (وتمّت الإشارة إليه في تعميم مصرف لبنان رقم 167 الصادر في 2 شباط 2024) ليصبح 89,500 ليرة للدولار الواحد كان كفيلاً برسم المشهد النقدي في 2024 لأنّه فتح شهيّة الحكومة اللبنانية على دولرة كلّ إيراداتها من رسوم وضرائب. وجاءت هذه الخطوة كسابقاتها على حساب المواطن اللبناني ولقمة عيشه، وذلك بعدما نجحت مكوّنات القطاع الخاصّ، من أفراد ومؤسّسات، في دولرة إيراداتها ونفقاتها خلال 2023.
2- إقرار الموازنة العامّة لعام 2024 ضمن المهل الدستورية مع إبقاء الدين العامّ الغائب الأكبر عن هموم الموازنة العامّة منذ إعلان حكومة حسان دياب التوقّف عن خدمة الدين العامّ في آذار 2020، فكان التعثّر غير المنظّم وتداعياته.
أقفلت سنة 2024 أبوابها على مشهد غير مألوف، حيث لجأت بعض المصارف إلى إغراء المودعين بفوائد مرتفعة على الإيداعات بالليرة اللبنانية
3- إبقاء الجمود سيّد الموقف لجهة الاهتمام بمندرجات الاتّفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي (IMF) الذي تمّ إخراجه وتوقيعه في نيسان 2020 مع محاولة تسويق أنّ لبنان على وشك الوصول إلى برنامج إنقاذ. خطوة كان الهدف منها تلميع صورة مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة لإتمام الانتخابات البرلمانية في أيّار 2022 وتحقيق انتصارات وليس لإنقاذ لبنان ووضعه على سكّة التعافي.
تثبيت سعر صرف الليرة
4- توقّف العمل بأحكام التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 151 الذي كان يسمح للّبنانيين من أصحاب الحسابات بالدولار المحلّي بالسحب ضمن سقف 1,600 دولار شهريّاً على سعر الصرف 15,000 ليرة للدولار الواحد. وبعدها كانت هناك محاولة لاستبدال هذا التعميم بالتعميم الأساسي رقم 166 الصادر في 2 شباط 2024 الذي حدّد سقف الاستفادة بـ 150 دولاراً فقط، وكان بمنزلة إنهاء حقبة دولار السحوبات المصرفية الذي واكب التعميم الأساسي رقم 151.
5- كانت هناك محاولة ناجحة لتوسيع رقعة الاستفادة من أحكام التعميم الأساسي رقم 158، وشهدت الساحة المصرفية ارتفاعاً حادّاً في عدد المستفيدين وحجم الاستفادة.
6- أطلق البعض عليه استقراراً، والبعض الآخر تثبيتاً، أمّا من موقعي متابعاً للأحداث في المشهد الاقتصادي فأقول: توقّفت التقلّبات والاضطرابات في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية لأنّه لم يعد هناك طلب على الليرة وأصبح الدولار ملك الغابة النقدية ومن دون منافس محلّي.
من أهمّ إنجازات مصرف لبنان لهذا العام هو الاستمرار في توفير السحوبات الاستثنائية من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي
7- استمرّ حاكم مصرف لبنان بالإنابة، الدكتور وسيم منصوري، بالقول إنّ “إيد وحده ما بصفق”، بالإشارة إلى أنّ هناك حدوداً لما يستطيع مصرف لبنان إنجازه، وعلى السلطة التنفيذية (والتشريعية أيضاً) التحرّك لإقرار القوانين اللازمة التي من المفترض أن تعيد الانتظام إلى القطاع الماليّ. وفي المقلب الآخر، من أهمّ إنجازات مصرف لبنان لهذا العام هو الاستمرار في توفير السحوبات الاستثنائية من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي من دون أيّ حركة واحدة تسجّل لجهة إطلاق عجلة ترميم الثقة بين المصارف التجارية ومكوّنات القطاع الخاصّ اللبناني، من أفراد ومؤسّسات.
قد تكون الارتدادات التي شهدها التعميم الأساسي رقم 165، الصادر في 19 نيسان 2023 والذي قدّم حوافز لفتح حسابات فريش بالليرة اللبنانية وبالعملة الأجنبية كإجراء جدّي للعودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي بعيداً عن التداول بالأوراق النقدية، والهجوم والانتقادات، وخصوصاً من قبل رئيس اللجنة الاقتصادية البرلمانية وغيره، دفعت بمصرف لبنان إلى تفادي إحداث أيّ انعطافة استراتيجية في السياسة النقدية إلى حين التأكّد وضمان وجود مواكبة لخطواته من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية.
توقيف رياض سلامة.. وفوائد عالية على الليرة
8- كان توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة حدثاً من دون أحداث ولا تداعيات وكأنّ شيئاً لم يكن!
فشلت سياسات مصرف لبنان في خلق أيّ نوع من الاستقرار الماليّ المستدام
9- بعد سنة من الانتظار والتشاور مع الجهات الرسمية اللبنانية، من سلطة تنفيذية ومصرف لبنان، لبنان يتدحرج نحو مجموعة الدول غير المتعاونة كلّياً في إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب المعتمدة من قبل مجموعة العمل المالي (FATF). لبنان على اللائحة الرمادية مع خريطة طريق واضحة المعالم لإخراجه منها. أهمّية خريطة الطريق هذه هي أنّها تُحَمِّل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضاء ومصرف لبنان والمصارف التجارية ومكوّنات القطاع الخاصّ وغيرهم مسؤولية إخراج لبنان من اللائحة الرمادية. هذا الخلط في الأوراق الذي أدخل توزيعاً عادلاً لمسؤوليّة هذا التدهور سوف يُرخي بظلاله على أداء هذه الأطراف في 2025، ولن يكون سهلاً.
10- الحرب، وما أدراك ما الحرب وما لها وما عليها، كصبّ الزيت على النار. تقديرات الخسائر تراوح وتتأرجح بين 9 مليارات (البنك الدولي) و20 (وزير الاقتصاد اللبناني) مليار دولار أميركي بانتظار المسح الدقيق والتقني والشفّاف.
كان توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة حدثاً من دون أحداث ولا تداعيات وكأنّ شيئاً لم يكن
أقفلت سنة 2024 أبوابها على مشهد غير مألوف، حيث لجأت بعض المصارف إلى إغراء المودعين بفوائد مرتفعة على الإيداعات بالليرة اللبنانية تصل إلى 45% مقابل تجميد الأموال لمدّة سنة. إذا لم تكن هذه الخطوة منسّقة مع مصرف لبنان، فقد تُعتبر محاولة غير حميدة، إذ تفتح الباب مجدّداً أمام الإيداعات النقدية. وهي ممارسة سبق أن حذّرت منها مجموعة العمل المالي والبنك الدولي، خصوصاً في ظلّ الإفراط في التداول عبر منصّة صيرفة (بناءً على تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 157). ويمكن أن تُمثّل هذه الخطوة محاولة من المصارف لتحويل الودائع المعنونة بالدولار المحلّي إلى الليرة اللبنانية (ليلرة الودائع)، بهدف التخفيف من مطلوباتها المتعثّرة (Toxic Liabilities)، الأمر الذي يحمل تداعيات سلبية وخطيرة.
إقرأ أيضاً: فائدة الـ 45% على الودائع: للتّحكّم باللّيرة حدود
أمّا إذا كانت الخطوة بالتنسيق مع مصرف لبنان، فقد يكون الهدف منها خلق طلب مصطنع على الليرة اللبنانية، إلا أنّ هذا الإجراء، في ظلّ غياب الإصلاحات الجوهرية لإعادة الاستقرار إلى القطاع المالي، لن يتعدّى كونه محاولة محدودة وغير كافية، لتحقيق التعافي في النقد الوطني.
*النصّ هو دراسة أُعِدّت في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت.
*باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية