يسوق الحزب نوعاً جديداً من الفدرالية، وهي “فدرالية السلاح”. يقسّم عبرها الجغرافيا اللبنانية. أمسى يفرّق بين شمال وجنوب بلاد الأرز. يحاول العودة إلى الفترة التي حكمت البلاد بعد حرب تموز 2006، إلى مرحلة القرار 1701، إنّما بطريقة معاكسة. بعد توقيعه اتّفاق وقف إطلاق النار الذي لا نعلم عنه شيئاً، وقبوله بنزع السلاح، أي تسليمه في الجنوب والبقاء عليه في الداخل… فكيف سينعكس هذا على الانتخابات الرئاسية بعد أيّام قليلة؟
انسجم الحزب مع فكرة تسليم السلاح في جنوب منطقة الليطاني، في حين يريد الاحتفاظ به في الداخل اللبناني حتى الحدود السورية، منطقة عمليات القرار الدولي 1680. يروّج من جديد لدعابته الموسمية، وهي أنّه المتعاون الأوّل مع الشرعية الدولية في الجنوب، في تلميح للجيش اللبناني. يمنّن بأنّه الضمانة للشرعية الوطنية في الداخل خدمة لبقاء سلاحه، في حين أنّ الدولة هي ضمانته وليست المقاومة. يعيش الحزب في عالم موازٍ من عوالم اللالاند.
فهل يعلم الحزب أنّ جنوب لبنان محتلّ بسببه، بعدما كان محرّراً قبل السابع من أكتوبر “تشرين الأوّل 2023). ربّما لا يعلم أنّ هنالك متغيّرات جمّة حصلت في لبنان والمنطقة العربية، بدءاً من اتّفاق إذعان التسوية الذي وقّع عليه، إلى سقوط بشار الأسد ونظامه في سوريا، وتقليم الأذرع الإيرانية من العراق إلى اليمن، وهزيمة الذراع الإيرانية في غزّة بفلسطين. وأنّ ما عليه إلا العودة إلى الدولة بكلّ شروطها والتسليم بشرعيّتها واحترام قوانينها.
يسوق الحزب نوعاً جديداً من الفدرالية، وهي “فدرالية السلاح”. يقسّم عبرها الجغرافيا اللبنانية
انفصام الحزب
تستمرّ حالة انفصام الحزب. فهو وافق على التسوية، ويريد تحميل الدولة والجميع ما عداه كلّ عواقبها. يستكمل مع كلّ فريق الممانعة سياسة المكابرة. يدّعي النصر الإعلامي عبر منابره الصوتية الفاقدة للأثر. ينقلب عليها وينتقدها ساعة يشاء. يغرق في حالة نكران الذات، وفي حقبة متقدّمة من تجاهل الواقع. فيما أضحى لبنان دولة القرارات الدولية. وقد حان الوقت، على التوقيت الدّولي، لتطبيقها جبراً أو فضلاً، سواء كان الفصل سادساً أم حتى سابعاً.
كان سلاح الحزب دفاعاً عن لبنان. أصبح بعد أحداث 7 أيار 2008 دفاعاً عن السلاح، وضدّ من يخاصمه في السياسة في لبنان. بعد ذلك أشهر ترسانته في وجه الدول العربية. أبعد لبنان عن ملاذه الآمن. حوّله إلى أداة اجتياح إقليمية بحجج واهية ومخطّطات ساقطة وانتقامية تتناقض مع مبادئ قيام الشرعية العربية. وتجلّت بدعة وحدة الساحات، التي هدّدت وحدة الدول العربية وأفقدتها سلامها، وكانت آخر فقاقيع محور الممانعة.
انسجم الحزب مع فكرة تسليم السلاح في جنوب منطقة الليطاني، في حين يريد الاحتفاظ به في الداخل اللبناني حتى الحدود السورية
أوان الشّرعيّتين اللّبنانيّة والدّوليّة
لن تنتهي صلاحيّات القرارات الدّولية أبداً. لم تخرج عن الخدمة أصلاً، كما يروّجون. بل على العكس، لم تنفَّذ بعد. فحتى القرار 1559، منذ صدوره في 2 أيلول 2004، لم يغب عن سماء بيروت، حتى لو صوّر البعض أنّه قد خرج من التداول في السياسة، وبات منتهي الصلاحية. يحوم اليوم بطريقة قدريّة من بوّابة الأرقام المتفرّقة الهادفة والأحداث المرتقبة الدالّة عليه التي تؤكّد في عمقها حتمية تنفيذ القرارات الدولية كلّها، ولو بعد حين.
أمسى لبنان في أمانة اللجنتين الخماسيّتين السياسية واللوجستية. ينتظر متأمّلاً دخان الجلسة الرئاسية الأبيض، في التاسع من كانون الثاني. وبالتالي تعوّل بيروت حالياً على ثلاثة حراكات حالية بارزة ترسم أرقامها وتواريخ ميقاتها بشكل طبيعي القرار 1559:
- الخماسيّة الرئاسيّة: تتألّف من سفراء دول المملكة العربية السعودية وفرنسا وأميركا، إضافة إلى جمهورية مصر ودولة قطر الممثّلتين في لبنان. هي هيئة ناصحة وغير مقرّرة تسعى منذ حولين ونيّف إلى مساعدة لبنان على إنهاء شغوره الرئاسي. تضع اللجنة الصديقة المقذوفة الرئاسية في مرمى الأفرقاء اللبنانيين. وتنصح بضرورة انتخاب الرئيس في أسرع وقت. وتشدّد على التوافق الدستوري وعدم جواز استمرار لبنان من دون رئيس لفترة أطول. فلا مفرّ من انتخاب رأس الدولة وإعادة تكوين السلطة والمؤسّسات الشاملة الكاملة الصلاحيّات من أجل الانصراف إلى مقارعة تحدّيات الدولة الطبيعية، والولوج إلى ورشة بناء البلاد.
تستمرّ حالة انفصام الحزب. فهو وافق على التسوية، ويريد تحميل الدولة والجميع ما عداه كلّ عواقبها
- الخماسيّة العسكريّة: تتألّف من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وقوات اليونيفيل الأمميّة. يضاف إليها طرفا النزاع لبنان والعدوّ الإسرائيلي. هي لجنة مراقبة وقف العمليات العدائية، وتنفيذ كلّ مندرجات القرار 1701، مع كلّ القرارات السابقة واللاحقة ذات الصلة. ترأسها الولايات المتحدة الأميركية وتعاونها فرنسا فيما اليونيفيل عضو فيها. تتولّى فيها واشنطن دور القيادة من أجل إنجاز ومراقبة تنفيذ مراحل اتّفاق التسوية. تسلّم الجنرال الأميركي غاسبر جيفرز زمام الأمور اللوجستية العسكرية. يعاونه الجنرال الفرنسي غيوم بونشاي. فيما انحصرت العمادة المدنية المؤقّتة بيد المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين. تضمن اللجنة آليّة الإشراف ومتابعة تنفيذ وقف العمليات العدائية بين لبنان والكيان الإسرائيلي، وصولاً إلى مرحلة وقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي النهائي من الجنوب اللبناني. تتعاون بشكل وثيق مع الجيش اللبناني وقوّات القبعات الزرق الأمميّة. وتتعاون اللجنة الفنّية العسكرية مع لبنان، وتدعم قوّاته المسلّحة الشرعية، وتساعد في استنهاضها ونشرها الصريح في جنوب لبنان في تكريس واقعي للقرار 1701.
- جلسة 9 – 1 الرئاسيّة: حدّد رئيس المجلس النيابي نبيه بري، عقب التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، يوم التاسع من شهر كانون الثاني الجاري زماناً معلوماً لجلسة الانتخاب الرئاسية الموعودة. يُنظر إلى هذه الجلسة بكلّ جدّية، ويُتوخّى أن تكون بداية الانقلاب في المشهد السياسي اللبناني. تُعتبر أيضاً جلسة الواجب الدستورية التي ينصّ عليها الدستور اللبناني. تتخطّى بطبيعتها الصلاحيّات الدستورية المجرّدة. إذ يحتَّم القيام بهذا الواجب بقوّة القانون والسلطة المشروعة الممنوحة من قبل الشعب. تطبّق نصّ وثيقة الوفاق الوطني الشرعية بشكل سليم، وتسقط معها كلّ موانع الاستمرار في الفراغ الرئاسي، وتجعله مستحيلاً.
تعمل الخماسية الأمنيّة على تذليل عقبات غموض اتفاق التسوية الذي قبل به الحزب
استيعاب الحزب والعودة إلى كنف الدّولة
تنصح الخماسية الرئاسية بضرورة تغيير طريقة التعاطي اللبناني مع الاستحقاقات الدستورية الوطنية، وأوّلها رئاسة الجمهورية، وبأن تتماشى أيضاً مع التطوّرات والأحداث الجارية في العالم والمنطقة الشرق الأوسطيّة. تتوافق على أنّ سبيل النجاح الوحيد هو احترام الدستور وتطبيقه، والامتثال لتنفيذ القرارات الدولية التي تعكس روحية الدستور اللبناني لناحية السيادة والمبادئ الشرعية السياسية والعسكرية. تنطلق من إمكانية الوصول إلى مساحة مشتركة مقرونة بعدم الغلبة، وإلى منطقة تلاقٍ بين الأفرقاء والأحزاب في لبنان عنوانها عدم التمايز.
تعمل الخماسية الأمنيّة على تذليل عقبات غموض اتفاق التسوية الذي قبل به الحزب. تشكّلت هذه اللجنة بعد 65 يوماً من الحرب، نتيجة اتّفاق التسوية. قطعت إلى الآن مسافة الشهر الأوّل من مرحلة الهدنة، أي نصف مرحلة الهدنة. تجتهد في حماية الاتّفاق وتصحيح مسار عدم تطبيق القرار 1701 منذ عام 2006. تعتمد روحية الفصل السابع في الإجراءات، والفصل السادس في التعاون مع الجيش اللبناني، الآمر الناهي في كلّ لبنان. وتعكس حماوة الوضع الميداني في الجنوب طبيعة الاتّفاق المبهم المعالم، وغير الواضح التفاصيل. إذ تساهم عوامل الغموض والخفية في تكاثر حالات من اللبس والارتباك والرتابة، وتؤدّي إلى مراكمات في الخطوات الناقصة التي هي المدخل الأساسي لعدم الاستقرار.
على الرغم من كلّ الحراكات المتسارعة، ما يزال الحزب يعيش وكأنّه في المرحلة السابقة، لا يدرك معنى دخول لبنان العصر الدولي ومرحلة اللجان والمراقبة الدولية
تعتبر الجلسة انتخاب الرئيس المقبل في 9/1/2025 جلسة الجلسات. إنّها ميزان المرحلة الرئاسية في لبنان. سمتها القلق الدستوري. تختلط فيها الأعراف مع القوانين. تشكّل التئاماً ترقّبيّاً بفعل طبيعة الأحداث المتسارعة في السياسة. تنعقد في ظروف استثنائية مشهودة، وتفتح إشكالية جواز التمسّك بالمهل الطبيعية أو ضرورة إسقاطها أو تعديلها. يتوقّع منها أن تكون منتجة رئاسياً، أو أن تكون ولادة لجلسات رئاسية متتالية ومتواترة تنتج الرئيس في النهاية.
على الرغم من كلّ الحراكات المتسارعة، ما يزال الحزب يعيش وكأنّه في المرحلة السابقة، لا يدرك معنى دخول لبنان العصر الدولي ومرحلة اللجان والمراقبة الدولية، نتيجة مقاومته ومغامراته ومقامراته على تراب الوطن. هذا وتتجلّى على الساحة اللبنانية أرقام لجان وتواريخ تعكس ارتباطها بالقرارات، وخاصة الـ1559. حان ميقات تحقّقها جميعاً.
لكنّ الحزب يمضي في حالة من النكران والالتباس، فلا يعي مسألة انتهاء عام أحداث القرن والسنين المزلزلة. لم يستوعب فكرة نهاية سنة عصفت فيها أحداث كبيرة. يجدر بـالحزب احتواء ما حدث، والكفّ عن الألاعيب، وأن ينظر إلى نفسه من بوّابة لبنان، الدولة البرلمانية الديمقراطية، التي تضمّ الأحزاب وتضمّه، وتحميها وتحميه، كما حمته اليوم، وليس العكس. فلا ضمانة إلّا مع الجمهورية، ولا شرعية إلّا مع السلطات الرسمية الحكومية، ولا حصرية للسلاح إلّا بيد المؤسّسات الأمنيّة الحكومية، حيث الدولة كلّها تدافع عن نفسها.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!
لم يعد السلاح من اختصاص الحزب، وهو ليس الجيش ولا الأمن الداخلي ولا الأمن العامّ ولا أمن الدولة، ولا شرطة بلدية. هو حزب لبناني، وعلى نشاطه أن يكون بحسب ما تنصّ عليه القوانين اللبنانية. ربّما عليه الاعتراف بوجوبية نزوله عن شجرة “الزقوم” الممانعة في عام 2025، واللحاق بركب الأحزاب الطبيعية، كما في أيّ وطن. إنّها مرحلة العودة إلى الدولة لكن بشروط الدولة. وليس أمامه سوى الرجوع إلى الواقع والتصالح مع المتغيّرات الاستراتيجية الجديدة في العام الجديد.
لمتابعة الكاتب على X: