بعد فوزه بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجانَي “القاهرة السينمائي الدولي” الـ 45 و”كرامة” الأردني لحقوق الإنسان، وصل فيلم “حالة عشق” للمخرجتين كارول منصور ومنى خالدي إلى سينما ميتروبوليس في بيروت حيث عُرض الأسبوع الماضي.
من هو الطبيب غسّان أبو ستة الذي دخل غزّة في 9 تشرين الأوّل 2023؟ كيف وصل إليها من لندن؟ ما هي دوافعه لخوض هذه المخاطرة والبقاء 43 يوماً تحت القصف؟ ما هي خلفيّته السياسية؟ كيف يفكّر؟ هل لديه عائلة؟ كيف كانت حياته قبل أن يتطوّع في مستشفيات غزّة منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية لينقذ أرواح أطفال ونساء وشيوخ وشباب وصبايا عُزّل؟ كيف كانت يوميّاته ويوميّات من حوله في غزة التي تفوّقت بالتراجيديا على الإغريق؟ وكيف كان يجري العمليات تحت القصف في ظلّ الجوع وانقطاع الموادّ المخدّرة والأدوية؟
متى ولماذا خرج من غزّة، بعدما دخل كلّ بيت وكلّ شاشة لكلّ من يتابع مآسي غزة، عبر مؤتمراته الصحافية ورسائله ونداءاته للإعلام الأجنبي والعربي؟ كيف تحوّل من جرّاح تجميل ومؤسّس أوّل منهاج عربي لـ “طبّ النزاع والحروب” في معهد الصحّة العالمية في الجامعة الأميركية في بيروت، إلى “بطل” و”أيقونة”؟
“مناضل” وشاهد على أفظع المجازر التي ارتكبها العدّو الإسرائيلي في أكبر مستشفيات القطاع “الشفاء” والمعمداني”؟ ما علاقته ببيروت والجامعة الأميركية التي خرج من غزة إلى غرفة عمليّاتها ليرمّم جراح أطفال متروكين لمشارح الموت؟
أسئلة كثيرة كنّا نطرحها حول هذا “البطل” كما تسمّيه مخرجتا الفيلم وصديقتا الطبيب، وكما يراه كثيرون من مناصري القضية الفلسطينية في العالم، أجاب عليها فيلم “حالة عشق” خلال 90 دقيقة.
نكتشف من خلال الفيلم أنّ الطبيب ليس صاحب سيرة ذاتية ثريّة، ولا بارعاً في ترميم الوجوه ورسم الشفاه وتضخيمها، بل لديه رؤية وفلسفة في الحياة مشبّعة ببعد سياسي عميق. كما نكتشف لطافته ورقّته مع المرضى والناس والمعارف، وأنّه عاطفي وحسّاس يراعي شعور زوجته حبيبته وشريكته ويمسك بيدها، كما تفعل هي تماماً، ويساعدها في تنظيف المنزل والاهتمام بأولاده الثلاثة وتحضير الطعام لهم في الصباح الباكر. دائم الترحال والتنقّل، متصوّف في عشقه لغزّة.
وصل فيلم “حالة عشق” للمخرجتين كارول منصور ومنى خالدي إلى سينما ميتروبوليس في بيروت حيث يعرض في 28 كانون الأوّل الجاري
شخصية حازمة ومنظمة
بيّنت مقابلاته الإعلامية شخصيّة حازمة منظّمة، قويّة، تعرف تماماً ماذا تريد وكيف تخطّط. لكن في “حالة عشق” رأينا غزّة من خلال عينيه وذكرياته، وقصصه عن المعاناة والأطفال وعن الصمود والمثابرة على المقاومة وبثّ روح الأمل مع انعدام الحياة.
لا يتناول الفيلم سيرة أبو ستّة الذاتية، بل يوثّق مآسي غزة من خلال حكاية هذا الرجل الإنساني والمناصر لقضايا حقوق الانسان، الذي نشأت علاقة عشق بينه وبين غزة، منذ كان طفلاً من عائلة مناضلة لاجئة من بئر السبع تنقّلت بين عمّان والكويت وبيروت ثمّ لندن. وتوطّدت هذه العلاقة عندما فُتِن بديمة، زوجته ابنة غزّة وابنة عائلة مناضلة أيضاً، وتشارك زوجها الهواجس والأفكار والدعم نفسه للقضيّة ولغزّة.
خمسة حروب في غزّة
تقول منى خالدي لـ”أساس” إنّ اختيار قصّة غسان أبو ستّة لسرد مأساة غزة وتوقيت الإبادة، “أتى من باب وجوده في حياة الناس اليومية، بعدما دخل غزّة في عزّ الحرب وصار موجوداً في حياة العشرات من الجرحى والمرضى عندما كان هناك تحت القصف”.
تضيف: “أنا وكارول تربطنا بغسان صداقة، وكنّا نتابع معه أخبار القطاع وأخباره الشخصية بشكل مستمرّ وهو هناك. وكنّا نعلم أنّه يحاول الخروج من غزة لأنّ الاحتلال لم يترك أيّ مجال ليشتغل شغله، وصار يعمل طبيب صحّة عامّة. وأخذنا القرار بتصوير فيلم عنه قبل يوم واحد من خروجه من القطاع”.
لا يتناول الفيلم سيرة أبو ستّة الذاتية، بل يوثّق مآسي غزة من خلال حكاية هذا الرجل الإنساني والمناصر لقضايا حقوق الانسان
بعث أبو ستّة رسالة صوتية إلى منى خالدي يعلمها بأنّه خرج بسلام ويتوجّه من معبر رفح إلى القاهرة ثمّ عمّان. طارت المخرجتان فوراً إلى بيت العائلة في عمّان لتستقبلاه هناك مع والدته والأقارب وتبدآ تصوير الفيلم بعد موافقته على ذلك. وتؤكّد: “لم نتّخذ قراراً بقدر ما فرض القرار والظروف نفسيهما، فبين أيدينا قصّة فردية وسردية جماعية عن غزّة ممكن أن تصل إلى الملايين، في حين كنّا نبحث عن أيّ عمل لدعم غزة وتوثيق ما يحصل فيها”.
تعرّفت منى على غسان في 2010 عندما أتى إلى لبنان، و”كنّا على تواصل دائم كلّما زار غزّة في الحروب الخمس السابقة، واستمرّ هذا التواصل مع هذه الحرب الأسوأ، وتعرّفت في هذه الظروف على زوجته وعائلته الكبيرة، وكان من البديهي ولزاماً علينا أن نفعل شيئاً ممّا نفقهه، وهو صناعة الأفلام”.
الفصل بين الواقع والسّينما
كيف فصلت المخرجتان بين تصوير فيلم مثقل بالواقع والمآسي والقصص الإنسانية، وبين الواقع التراجيدي المتسارع في غزة ولبنان الذي حتّم علينا المراقبة والمتابعة اليومية واللحظوية أحياناً عبر الإعلام أو عبر السوشيل ميديا؟
تقول خالدي: “من أصعب الأمور علينا أن نفصل، لأنّ ما يحصل من انتهاكات في غزة لا يتوقّف ويتجدّد في كلّ لحظة، وحتى ونحن نتحدّث هنا معكم في سينما ميتروبوليس في بيروت يتعرّض الآن مستشفى كمال عدوان للإبادة… فنسأل ماذا يمكننا أن نفعل؟ فنعود إلى فعل ما يمكن أن يوصل صوت غزة وأهلها الذين يُبادون كلّ يوم، ويوصل صوتنا كلّنا نحن المتألّمين لأجلهم بقدر المستطاع”.
أمّا كارول منصور فتقول: “نحن محظوظون بأنّه تربطنا صداقة بغسان، واستطعنا التقاطه مباشرة بعد خروجه من غزة. هذه نقطة مهمّة جداً”. وتضيف: “كان من الصعب العمل ومواكبتنا للأخبار في ظلّ كلّ هذه الكوارث، فاشتغلنا على الفيلم تدريجياً، وكنّا مصمّمين على إخراج الفيلم بأسرع وقت نظراً لآنيّته. على الرغم من كلّ الحروب المحيطة بنا، حاولت أن أفصل نفسي وأركّز على الفيلم، خصوصاً في فترات المونتاج لأكثر من 13 ساعة في اليوم”.
الصور القاسية للمجازر والأطراف المبتورة والعظام الخارجة من الجسد والدماء التي لوّنت باحات المستشفيات وسقت الأرض، أثارت جدلاً خلال مناقشة الفيلم بعد العرض
صور قاسية لإبادة حقيقيّة
كفكف العشرات دموعهم في صالة ميتروبوليس في بيروت كما فعل المئات في دار الأوبرا في العرض الأوّل للفيلم ضمن مهرجان القاهرة ومهرجان كرامة في عمّان. لكنّ أكثر ما أبكى منصور: “كلّما أشاهد الفيلم في كلّ عرض له، أبكي في الدقائق العشر الأخيرة، حتى الآن وبعد عشرات المشاهدات، مع أنّني أنا التي ولّفت وصوّرت واشتغلت على الفيلم”.
الصور القاسية للمجازر والأطراف المبتورة والعظام الخارجة من الجسد والدماء التي لوّنت باحات المستشفيات وسقت الأرض، والجثث الجماعية الملقاة في كلّ أرجاء القطاع، أثارت جدلاً خلال مناقشة الفيلم بعد العرض. واعترض البعض على عرضها بهذه الطريقة المباشرة والمؤلمة والمؤذية للعين.
لكنّ لكارول منصور رأياً آخر: “هذا فيلم وثائقي والصور المعروضة هي جزء صغير من واقع وإبادة جماعية يعيشها الفلسطينيون وكانت تنفّذ أمام عيوننا على الشاشات وعلى صفحات السوشيل ميديا. هذه حقيقة وليست صوراً ومن لا يريد رؤيتها ولا تعجبه فلا يشاهد الفيلم”. وشرحت أنّ تمويل الفيلم كان من الصعوبات التي واجهتهما، إذ “حصلنا على تمويل من 3 مؤسّسات لا يكفي لإنتاج الفيلم، فساهم أصدقاء ومعارف من أموالهم الخاصّة لإنتاجه”.
إقرأ أيضاً: “أرض الوهم” لكارلوس شاهين يُكرَّم كأفضل فيلم لبنانيّ
لكن من أصعب المواقف والمصاعب “البحث في أرشيف فيديوهات المذابح الإسرائيلية وصورها التي تصوّر بشكل مباشر. كان هذا مؤلماً وصعباً، إضافة إلى صعوبة اختيار المشاهد القليلة من بين هذا الكمّ الهائل من المجازر”، تختم كارول.
لمتابعة الكاتب على X: