الشّرق الأوسط الجديد: بين “مقصّ” نتنياهو و”ذكاء” إردوغان

مدة القراءة 10 د

كشف رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأوّل مرّة في خطابه في 27 أيلول الفائت في الجمعية العامّة للأمم المتحدة عن رؤيته للشرق الأوسط الجديد، حين طالب العالم “أن يختار بين خارطة “النعمة” الإسرائيلية للشرق الأوسط والمحيط الهندي وأوروبا، وخارطة “اللعنة” الإيرانية، على خلفيّة الحرب مع حماس و”الحزب”. لم يتوقّف نتنياهو عن الرهان على قيام تحالف عربي – إسرائيلي يؤسّس لشرق أوسط جديد بشروطه. وعلى وقع خروج إيران من سوريا والضربات الموجعة التي تلقّاها وكلاؤها في فلسطين ولبنان واليمن، يعود النقاش في هذا الموضوع بين الإسرائيليين من البوّابة السورية، التي تبدو بنظرهم مفتاحاً أساسياً لرسم المشهد الجيوسياسي الجديد للشرق الأوسط. 

لطالما رأى الإسرائيليون أنّ إيران العقبة الكبرى أمام قيام شرق أوسط جديد. لكن بعد إخراجها من سوريا أخذت تظهر أمام هذا المشروع حقائق أخرى تتمثّل في معركة النفوذ التي تجري بين تركيا وإسرائيل، بهدف التأثير في رسم الجغرافيا السياسية الجديدة لسوريا. التي ستكون لها مفاعيلها في صورة المشهد الإقليمي الذي يتشكّل. بين معركة النفوذ هذه، و”الشراكة” التي يبحث عنها الإسرائيليون مع الدول العربية السنّية المعتدلة، كيف تظهر صورة الشرق الأوسط الجديد؟ 

راهن نتنياهو على تحالف عربي – إسرائيلي لإحداث تغيير استراتيجي في طبيعة الصراع وفي علاقات المنطقة وموازين القوى فيها. وراهن على إقامة شرق أوسط تتّخذ فيه إسرائيل موقع بوّابة آسيا إلى أوروبا. لكنّ بعض الباحثين الإسرائيليين اكتشفوا تعقيدات هذا التحوّل الكبير.

تحالف عربيّ – إسرائيليّ بعيد المنال 

فكتب ميخائيل ميلشتاين (رئيس “منتدى الدراسات الفلسطينية” في “مركز موشيه دايان” بجامعة تل أبيب وباحث كبير في “معهد السياسة والاستراتيجية” في مركز هرتسيليا) في مقالته في صحيفة معاريف في 3 تشرين الأوّل الماضي بعنوان: “المرحلة الثانية من الحرب تبدأ، وللمرّة الثانية من دون استراتيجية”. وفيه أنّ “ولادة الشرق الأوسط الجديد ليست وشيكة كما يعلن كثيرون في إسرائيل. فالأعداء المجروحون لم يختفوا، وإمكان حدوث انقلاب استراتيجي وتشكيل تحالف إسرائيلي – عربي تحت رعاية أميركية لا يزال رؤية بعيدة المنال”.

راهن نتنياهو على تحالف عربي – إسرائيلي لإحداث تغيير استراتيجي في طبيعة الصراع وفي علاقات المنطقة وموازين القوى فيها

وتابع الكاتب: “عندما رسم نتنياهو ملامح هذا التصوّر عشيّة 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2024)، وفي خطابه الأخير في الأمم المتحدة، سارع السعوديون إلى توضيح أنّ الشرط الأساسي لتحقيقه هو تعزيز المفاوضات بشأن القضية الفلسطينية، وهي “قضيّة ساخنة” تفضّل الحكومة الحالية التي تضمّ تيّارات متناقضة تجنُّبها”. لم تتلاشَ الآمال لدى الإسرائيليين الذين يبحثون عن “شراكة سنّية” مفقودة حتى الآن، إذ يتصوّر البعض منهم، بعد سقوط نظام الأسد وإخراج إيران من اللعبة في سوريا، قيام شراكة عربية – إسرائيلية لمواجهة صعود تركيا كقوة إقليمية.

في هذا الإطار، كتب إفرايم عنبار في “معهد القدس للدراسات الاستراتيجية والأمن” أنّ “مواجهة المخاوف من تركيا وصعود محور سنّي متطرّف سيدفعان بعدد من الدول العربية إلى الاقتراب من إسرائيل”.

يطرح البعض الآخر من الإسرائيليين شراكة لمواجهة طهران والإخوان المسلمين مشفوعة بجزرة تعرض مستقبلاً للفلسطينيين دون حلّ الدولتين، كما عرض عاموس يادلين (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (آمان) بين عامَي 2006 و2010)، وافنير جولوف (نائب رئيس منظّمة MIND في إسرائيل، من عام 2018 إلى عام 2023، وكان مديراً أوّل في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي)، في مقالتهما في “فورين أفيرز” بعنوان “نظام إسرائيل في الشرق الأوسط”. إذ كتبا تحت عنوان فرعيّ “تحالف الراغبين”: “يجب على إسرائيل البناء على انتصاراتها التشغيلية من خلال توضيح ومتابعة رؤية استراتيجية متماسكة لتحالف إقليمي معتدل بين إسرائيل والدول العربية السنّية، بقيادة المملكة العربية السعودية”.

كشف رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأوّل مرّة في خطابه في 27 أيلول الفائت في الجمعية العامّة للأمم المتحدة عن رؤيته للشرق الأوسط الجديد

مواجهة تركيا وقطر والإخوان المسلمين

وأضافا: “يجب أن تعالج التهديدات الأمنيّة الرئيسية، وفي مقدَّمها إيران، وأن تقدّم جبهة موحّدة ضدّ محاولات تركيا وقطر تعزيز نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، وهي مهمّة أصبحت أكثر إلحاحاً بعد انهيار نظام الأسد”. وبرأيهما، “يجب على التحالف أن يوفّر للفلسطينيين مستقبلاً سياسياً لا يرتكز على حلّ الدولتين”. اعترف الكاتبان بأنّ “إسرائيل تحتاج إلى الولايات المتحدة لقيادة الجهد المعقّد والشراكة العربية لتوفير الشرعية في الشرق الأوسط وتحويل رؤيتها إلى قوّة إقليمية فعّالة”. هذه الرؤية قائمة بنظرهما “على النهوض بعملية التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وإنشاء إطار أمنيّ إقليمي جديد”.

إذاً يدور “تحالف الراغبين” في حلقة تقفلها المملكة لعدم استعداد نتنياهو وحكومته لتقديم أيّ تنازلات تتعلّق بحلّ الدولتين، ولا توجد أيّ مؤشّرات تدلّ على أنّ المملكة بوارد رسم أيّ تحالفات في المدى المنظور بوجه كلّ من إيران أو تركيا. فماذا عن النصف الآخر من المشهد في رسم الخريطة السياسية لسوريا الجديدة؟

إسقاط الأسد وإزاحة إيران وميليشياتها عن المشهد السوري، وإبعاد روسيا المنشغلة بتحضير أوراق التفاوض على حصّتها من الجغرافيا الأوكرانية، عظّمت الفرص لتشكيل شرق أوسط جديد.

ظهرت الصورة الجيوسياسية لهذا التحوّل الكبير من خلال تحوّل إيران إلى ما يشبه الـ”Declining power” (القوّة المتراجعة)، وبلوغ تركيا وإسرائيل مرحلة متقدّمة على طريق الـ “Raising power” (القوّة الناشئة). لكنّ المشهد الجيوسياسي هذا لن يظهر بصورته الكاملة إلّا من خلال ما ستسفر عنه معركة النفوذ التي بدأت بين تركيا وإسرائيل على الإقليم السوري. هذه المعركة سيكون لها الأثر الكبير في رسم صورة المنطقة وتوازناتها لعقود، حيث لكلّ من تركيا وإسرائيل رؤيتها الخاصّة بالشرق الأوسط الجديد بدءاً من التطوّرات في الميدان السوري.

إسقاط الأسد وإزاحة إيران وميليشياتها عن المشهد السوري، وإبعاد روسيا المنشغلة بتحضير أوراق التفاوض على حصّتها من الجغرافيا الأوكرانية، عظّمت الفرص لتشكيل شرق أوسط جديد

يعتقد الإسرائيليون أنّ مشروع إردوغان لتحويل تركيا إلى مركز تسويق الغاز إلى أوروبا عبر الخطّ القطري الذي يمرّ بالأراضي السورية، ستكون له تداعيات على الممرّ الهندي – الأوروبي الذي سيجعل من إسرائيل واجهة آسيا على أوروبا.. ولا تخلو الصحافة الإسرائيلية يوميّاً من مقالة أو أكثر تحذّر من المشروع القطري – التركي في سوريا الهادف برأيهم إلى فرض هيمنة فكر الإخوان المسلمين على المنطقة.

أردوغان زعيماً عالمياً

من جهتهم يرى الأتراك في الدعم الأميركي والإسرائيلي لحماية الإدارة الذاتية للأكراد، ومطالبتهم بالفدرالية تسهيلاً لاندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد، تهديداً للأمن القومي التركي. وعلى قاعدة أنّ تركيا رسمت لنفسها منطقة عازلة في الشمال السوري، وإسرائيل أقدمت على الخطوة ذاتها في الجنوب، فإنّ معركة النفوذ هذه عبّرت عنها صحيفة جيروزاليم بوست في 24 كانون الأوّل في مقالة بعنوان: “إسرائيل وتركيا: إعادة تشكيل سوريا من حدودها”. وجاء فيها أنّ “أنقرة ستتطلّع إلى تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في سوريا لتوسيع المصالح التركية”. وأضافت الصحيفة نقلاً عن محلّلين في مجموعة أوراسيا أنّ “من شأن النتيجة الجيّدة لتركيا في سوريا أن تساعد إردوغان على تقديم نفسه زعيماً عالمياً مؤثّراً وتعزيز شعبيّته المنخفضة”. وكتب عاميت ياغور (النائب السابق لرئيس الساحة الفلسطينية في شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي) في معاريف: “نشهد في هذه الأيّام عمليّة استراتيجية مهمّة جدّاً: سيطرة تركيا (وقطر) على سورية، والبدء بصوغ النظام الإقليمي الجديد. ومعنى ذلك أنّنا نشهد أمام أعيننا نموذجاً للإمبراطورية العثمانية وفق الصورة الإردوغانيّة، أي منطقة يقودها ويهيمن عليها محور الإخوان المسلمين السنّي المتطرّف، الذي يحلّ عمليّاً ونظريّاً محلّ محور المقاومة الشيعي الذي انهار نتيجة خروج سورية من المعادلة”.

يعتقد الإسرائيليون أنّ مشروع إردوغان لتحويل تركيا إلى مركز تسويق الغاز إلى أوروبا عبر الخطّ القطري الذي يمرّ بالأراضي السورية، ستكون له تداعيات على الممرّ الهندي – الأوروبي

مقصّ نتنياهو يحرّك حدود سايكس بيكو 

على وقع التحالف العربي السنّي المتعذّر حالياً، وعلى خلفيّة التصوّر الإسرائيلي لدور تركيا الزعيمة لمحور سنّي ناشئ، كشف نتنياهو عن حقيقة الشرق الأوسط الذي يخطّط له، حين أمسك “بالمقصّ” للعبث بحدود “سايكس بيكو” من بوّابة الجنوب السوري. وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان هذا “المقصّ” سيقتطع أيضاً أجزاءً من جنوب لبنان. وفي مقالته نشرتها هآرتس بعنوان “من نتساريم إلى قمّة جبل الشيخ: نتنياهو يحقّق رؤية إسرائيل الكبرى”، كتب ألوف بن أنّ إعلان نتنياهو من على هضبة الجولان انهيار اتّفاق فصل القوّات يعني “بالمنطق الإسرائيلي إمكانية تحريك الحدود شرقاً على الرغم من الانتقادات من جانب الأمم المتحدة ودول عربية صديقة”. وأضاف: “لم يكتفِ نتنياهو بمحو الحدود في الجولان، بل ذهب في شهادته أثناء محاكمته بقضايا فساد إلى أبعد من ذلك”، إذ قال: “ما حدث هنا هو شيء ضخم، وزلزال لم نشهد مثله منذ 100 عام، وتحديداً منذ اتفاق سايكس – بيكو”. وبرأي الكاتب، فإنّ كلام نتنياهو أمام القضاة يهدف للقول إنّ “منظومة الحدود السابقة في المنطقة لم تعُد موجودة”.

أين سيقف ترامب؟ 

تنقّلت المنطقة في العقد الماضي بين “النعمة” الإسرائيلية و”اللعنة” الإيرانية، بحسب لغة نتانياهو. فكانت حروب الواسطة التي أدّت إلى تغييرات استراتيجية. مقصّ مارك سايكس وجورج بيكو الذي بقيت مفاعيله حيّة في المشاهد الجيوسياسية الإقليمية لقرن من الزمن ونيّف، يخلي الساحة لمعادلة جديدة يحكمها “مقصّ نتنياهو” و”ذكاء إردوغان”. وبين “المقصّ” الذي أضاف إلى الجولان جزءاً حيوياً من الجنوب السوري ليشكّل موطئ قدم في مواجهة محور سوريا – تركيا – قطر، و”الذكاء” الذي استطاع تحييد روسيا وإيران وإسقاط الأسد، تغيب الرؤية العربية الموحّدة لسوريا والمنطقة التي تشهد تحوّلات كبرى.

في الأشهر المقبلة، سنرى ما إذا كان ترامب سيقف على “الجانب الصحيح من التاريخ” أو الجانب الخطأ من الجغرافيا التي يعبث بها مقصّ نتنياهو

يبقى السؤال الأساسي: هل تكون أميركا “على الجانب الصحيح من التاريخ” كما دعا الصحافي جوش روجين في “واشنطن بوست”، فتدعم سوريا الموحّدة وتضمن قيام نظام تعدّدي فيها؟

الأمر غير واضح حتى الآن. إذ تتنقّل تصريحات ترامب بين نصائح الابتعاد عن سوريا، ومواقف الاعتراف بنفوذ تركيا الكبير وذكاء إردوغان، والإقرار بحقّ إسرائيل “الدفاع عن النفس”. وتحت هذا “الحق” تمركز نتنياهو على مرصد جبل الشيخ الذي يمسك بمفاتيح جنوب دمشق ويحصي أنفاس القيادة الجديدة.

في الأشهر المقبلة، سنرى ما إذا كان ترامب سيقف على “الجانب الصحيح من التاريخ” أو الجانب الخطأ من الجغرافيا التي يعبث بها مقصّ نتنياهو بهدف تحقيق “إسرائيل الكبرى”. من الآن وصاعداً سيتحوّل الجهد الاستراتيجي الإسرائيلي نحو سوريا التي ستلعب جغرافيّتها دوراً أساسيّاً في الصراع على ممرّات أنابيب الغاز وخطوط السكك الحديدية، وستلعب سياستها الخارجية والنفوذ التركي فيها دوراً حاسماً في شكل الشرق الأوسط الجديد.

* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية. 

مواضيع ذات صلة

تحرّك الرّياض: سقف الطّائف… وقَرْن الأقوال بالأفعال

في لبنان مثل سوريا، لا يحتمل الوضع التأخير في الدعم العربي، ولا سيما السعودي، لانتخاب الرئيس في جلسة 9 كانون الثاني. في دمشق لا مجال…

الياس البيسري: قطر ترشّح.. والسعودية “عالسمع”؟

المعتاد في مواصفات المرشّح لرئاسة الجمهورية ثمّ المنتخَب، أن يكون من اللاعبين على المسرح لا ممّن وراء الستارة. ذلك شأن نوّاب ووزراء ورؤساء أحزاب وقادة…

الشّرع: البحث عن نقطة توازن

إذا ما يضرب أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، موعداً بعد أربع سنوات لإجراء انتخابات في البلاد، فإنّه في الوقت عينه يسعى إلى تلمّس…

سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا

أوجد سقوط نظام بشار الأسد واقعاً استراتيجيّاً جديداً في الشرق الأوسط. خرجت إيران من سوريا وضعف دور روسيا، فدخلت تركيا عبر حلفائها السوريين وملأت الفراغ،…