تغيّر الوضع الإقليمي ولم يتغيّر اللبنانيون بعد. ما زالت الطبقة السياسيّة ترفض أخذ العلم بالواقع الإقليمي الجديد الذي ولد من رحم “طوفان الأقصى”، وهو الهجوم الذي شنّته “حماس” انطلاقاً من قطاع غزّة في اتّجاه مستوطنات إسرائيلية قبل نحو 15 شهراً.
على الرغم من وجود طبقة سياسية في حال غيبوبة، عاد مع بداية سنة 2025 بعض الأمل بإمكان انبعاث لبنان في ضوء ما حلّ بـ”الحزب”. كان “الحزب” طوال سنوات، اللاعب الأساسي وشبه الوحيد على الأرض اللبنانيّة، خصوصاً مع اغتيال رفيق الحريري ومشروعه في 2005، ثمّ افتعال حرب صيف 2006 مع إسرائيل. لم يكن لدى “الحزب” من هدف سوى تكريس البلد ورقة في لعبة إيرانيّة لم تعد موجودة حاليّاً، خصوصاً منذ سقوط النظام السوري في الثامن من كانون الأوّل الماضي.
كشفت أحداث الشهور التي تلت “طوفان الأقصى” الذي وقع في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، أنّ لبنان في حاجة ماسّة إلى طبقة سياسية جديدة تستطيع التعاطي مع واقع إقليمي مختلف جذريّاً نجم عن زوال الكابوسين الإيراني والسوري.
ما زالت الطبقة السياسيّة ترفض أخذ العلم بالواقع الإقليمي الجديد الذي ولد من رحم “طوفان الأقصى”
2019 – 2025: قيامة جديدة
في ستّ سنوات، ابتداء من سنة 2019 تحديداً، انتقل لبنان من انعدام الأمل إلى ما يشبه قيامة جديدة تحتاج إلى من يأخذ على عاتقه تحقيقها في ظروف في غاية التعقيد. كان عام 2019 عام الانهيار اللبناني، وذلك بعدما سرقت المصارف، بتشجيع من الدولة اللبنانية، أموال المواطنين اللبنانيين والعرب الذين آمنوا بالنظام المصرفي اللبناني الذي ليس ما يشير إلى أنّه ستقوم له قيامة قريباً. لم يكن “الحزب” في أيّ وقت بعيداً عن انهيار النظام المصرفي. يؤكّد ذلك وقوفه وراء الحملات التي استهدفت هذا النظام طوال سنوات من جهة، وإقامة نظام مصرفي خاصّ به (القرض الحسن) من جهة أخرى.
يمكن الذهاب أبعد من ذلك بكثير. كان يمكن القول بكلّ راحة ضمير، إلى ما قبل فترة قصيرة، إنّ لبنان الذي عرفناه لن يعود يوماً. بل إنّ عودة لبنان صارت مستحيلة، وإنّه لا مفرّ من صيغةٍ جديدةٍ في ظروفٍ إقليمية مختلفة.
من يصنع هذه الصيغة؟
سيعتمد الكثير على ما سيحدث في إيران نفسها حيث يوجد نظام مستعدّ للإمساك بأوراقه كلّها إلى آخر لحظة غير آبه بما يحصل في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن… في النهاية، لم يستحِ نوّاف الموسوي، وهو نائب لـ”الحزب”، اضطرّ لاحقاً إلى تقديم استقالته لأسبابٍ شخصية، من القول تحت قبّة البرلمان في عام 2019 إنّ “بندقية المقاومة هي من أوصلت ميشال عون للرئاسة”. عندما يحصل مثل هذا الأمر في مجلس النواب يصبح سهلاً فهم لماذا آلَ لبنان إلى ما آلَ إليه. ما الذي كان يمكن توقّعه غير بلوغ “جهنّم” في بلدٍ عربي يقرّر فيه “الحزب”، الذي ليس سوى أداة إيرانية، من هو رئيس الجمهورية المسيحي في هذا البلد؟
سيعتمد الكثير على ما سيحدث في إيران نفسها حيث يوجد نظام مستعدّ للإمساك بأوراقه كلّها إلى آخر لحظة غير آبه بما يحصل في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن
التّغيير اللّبنانيّ الضّروريّ في 2025
يفترض بأيّ سياسي لبناني التخلّص في 2025 من فكرة أنّ “الحزب” قادر على إيصال شخص ما إلى موقع رئيس الجمهوريّة كما حصل في عام 2016 عندما انتُخب ميشال عون، مرشّح “الحزب”، رئيساً.
تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى مدخل للتغيير اللبناني. المدخل هو رئاسة الجمهورية حيث الحاجة إلى رئيس محترم، وليس إلى رئيس قويّ بالضرورة. الحاجة إلى رئيس لا يخجل أيّ سياسي أو أيّ مواطن من تبكيل أزرار جاكيت بدلته أمامه. عندما يكون هناك رئيس محترم على رأس الجمهوريّة، رئيس يحترم الدستور بدقّة، يصبح في الإمكان الحديث عن إعادة بناء مؤسّسات الدولة، بدءاً بالقضاء وأجهزة المحاسبة، بطريقة سليمة.
انتُخب رئيس للجمهورية في التاسع من الشهر الجاري أم لم ينتخب مثل هذا الرئيس، ليس بعيداً اليوم الذي ستأخذ فيه الطبقة السياسيّة اللبنانيّة علماً بما حصل على الصعيد الإقليمي، وأنّ لبنان خرج من الوصاية الإيرانيّة، وأنّ بشّار الأسد موجود في موسكو… وأنّ سوريا لم تعد تحكمها الأقليّة العلويّة والعائلة الأسديّة وعصابات تهريب الكبتاغون إلى دول الخليج… والسلاح إلى لبنان!
تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى مدخل للتغيير اللبناني. المدخل هو رئاسة الجمهورية حيث الحاجة إلى رئيس محترم، وليس إلى رئيس قويّ بالضرورة
عاجلاً أم آجلاً، سيتبيّن أنّ على لبنان التكيّف مع الواقع الإقليمي الجديد. هذا لا يعني، في طبيعة الحال، أنّ هذا الواقع استقرّ عند صيغة معيّنة بمقدار ما يعني أنّ هناك فرصة أمام لبنان. يعبّر عن هذه الفرصة لجوء “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى الحوثيين، الذين يطلقون صواريخ من اليمن في اتّجاه إسرائيل، لإثبات أنّها لا تزال تمتلك أوراق ضغط وابتزاز في المنطقة.
نعم، أمام لبنان فرصة الخروج نهائياً من الوصاية الإيرانيّة بعدما تغيّرت المنطقة وتحوّلت سوريا إلى منطقة نفوذ تركيّة إلى حدّ كبير. ليس مطلوباً الدخول في مواجهة مع “الحزب” الذي يرفض الاعتراف بهزيمته. المطلوب أكثر من أيّ وقت التعاطي ببراغماتيّة مع المعطيات الإقليميّة الجديدة التي أدّت إلى سقوط المشروع التوسّعي الإيراني. لا يكون ذلك إلّا عبر انتخاب رئيس للجمهوريّة يليق بلبنان، رئيس لا يشكّل تحدّياً لأيّ فريق في البلد، بل يكرّس القطيعة مع المرحلة الإيرانيّة – السوريّة التي أوصلت الثنائي ميشال عون – جبران باسيل إلى قصر بعبدا… بهدف واحد وحيد يتمثّل في جعل قصر بعبدا والرئيس الماروني رهينة أخرى من رهائن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة!
إقرأ أيضاً: بري “شمعون الشيعة”: 40 عاماً نبيهاً!