الانتصار الذي يعمي البصيرة

مدة القراءة 7 د

وضعوا على فمه السلاسل   

ربطوا يديه بصخرة الموتى

وقالوا: أنت قاتل!

أخذوا طعامه، والملابس، والبيارق 

ورموه في زنزانة الموتى

وقالوا: أنت سارق!

طردوه من كلّ المرافئ   

أخذوا حبيبته الصغيرة

ثمّ قالوا: أنت لاجئ!

يا دامي العينين، والكفّين  

إنّ الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات، ولم تمُت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تموت

ستملأ الوادي سنابل                 

(محمود درويش)

“مارس” غريزيّ الطابع

لفتني عنوان كتاب غسان سلامة الأخير وهو “غواية مارس”. وقّع الكتاب في باريس ربّما بعيداً من منال أتباع مارس في بلده. فكيف لمارس، وهو إله الحرب والموت والدمار، أن يغوي؟

الجواب هو أنّ “مارس” يشبه تماماً طبع البشر الغريزي، أو الطبيعي، حسب رأي توماس هوبس في كتاب “الطاغوت” الشهير. غريزة البشر الأساسية مبنيّة على الغلبة والانتصار كوسيلة للحفاظ على الذات.

في حال الطبيعة، كلّ إنسان ذئب لغيره، ولن يشعر بالأمان حتى وإن خضعت له الذئاب وصار الآمر الناهي عليهم، لخوفه من غدر الزمان أو غدر أخيه به. لذلك، في حال الطبيعة، وقبل أيام العقود الاجتماعية، أو بعد سقوط تلك العقود، التي مكّنت البشر من العيش في مجتمع، تستمرّ الحرب، ويبقى مارس يغوي البشر بغرائزهم ليرفعوا رايات النصر ولو على الركام المختلط بأشلاء بشر آخرين.

“مارس” يشبه تماماً طبع البشر الغريزي، أو الطبيعي، حسب رأي توماس هوبس في كتاب “الطاغوت” الشهير

مشكلة الانتصار أنّه يغوي أيضاً صاحبه بالاستمرار بتكرار الأخطاء المميتة، وحتى لو كان القائد مقتنعاً بهزيمته ويوحي على الرغم من كلّ ذلك لأتباعه بأنّه منتصر، فإنّ فورة الفرح الهستيري عند الأتباع ستقنع القائد بأنّه انتصر، بحكم أنّ الأتباع ما زالوا يهتفون بحياته، ويعلنون استعدادهم لرفده بالمزيد من الأرواح في سبيل “القضيّة”، وإن لم يفهموا كنه تلك القضيّة.

يعشق البشر الشعارات لأنّها تختصر لهم الحقيقة المطلقة، لأنهم إن بحثوا في الجوهر وبحثوا في التفاصيل المخفورة تحت برقع الشعار لذهبوا للمساءلة والمحاسبة والتشكيك ثمّ العدمية المظلمة، فيفقدون بذلك سرّ وجودهم، وإن كان قائماً على أسطورة أو وهم.

في حرب 1967، التي حسمت عمليّاً في ساعاتها الأولى بتدمير مدارج الطائرات الحربية المصرية، وعلى الرغم من أنّنا وعدنا بصواريخ الظافر والقاهر تنهمر كحجارة من سجّيل على إسرائيل، سقطت سيناء بأكملها في بضعة أيّام.

تدليع الهزيمة

في مشهد مهيب ما زلت أعيش لحظاته حتى يومنا هذا، خرج جمال عبدالناصر ليعلن هزيمة مصر، ويعلن تنحّيه عن كلّ مسؤوليّاته الرسمية “ويعود كواحد من الشعب”. ربّما كما توقّع ناصر، أو ربّما سعى إليه، خرجت الجماهير بالملايين لتثنيه عن قراره الصائب، أوّلاً بتدليع الهزيمة لتتحوّل إلى نكسة، ثانياً بإعفاء نفسه من مسؤولية الهزيمة والعودة إلى الحكم بكامل شموليّته بتفويض من الجماهير. كما تمّ اختيار أكباش محرقة لتحميلهم وزر النكسة، بعضهم انتحر وبعضهم أُعدم وآخرون هربوا أو أُدخلوا السجن.

مشكلة الانتصار أنّه يغوي أيضاً صاحبه بالاستمرار بتكرار الأخطاء المميتة، وحتى لو كان القائد مقتنعاً بهزيمته ويوحي على الرغم من كلّ ذلك لأتباعه بأنّه منتصر

لكنّ ما حصل على الجبهة السورية كان أعظم وأدهى. في التاسع من حزيران، وبعد بداية المعارك المباشرة على جبهة الجولان، انسحبت القوات السورية بشكل عشوائي ابتداءً بقيادتها. يروى أنّ بعض الضبّاط الكبار فرّوا سيراً على الأقدام، بعدما خلعوا ثيابهم العسكرية، تاركين جنودهم في ساحة المعركة من دون أوامر. وبما أنّ الجولان الذي احتلّته القوات الإسرائيلية يبعد أربعين كلم فقط عن دمشق، انتقلت قيادة الحزب والدولة إلى حمص، مسلّمةً مسبقاً بسقوط العاصمة، أو وقوعها تحت الحصار.

كان مندوب سورية في الأمم المتحدة قد أعلن سقوط مدينة القنيطرة عاصمة الجولان، في الوقت الذي كان فيه ضبّاط وجنود يقاتلون من دون أوامر على الجبهات هناك. عندما اتّصل أحد الضبّاط، ممّن بقوا في ساحة المعركة، بوزير الدفاع حافظ الأسد لتلقّي الأوامر وليخبره بأنّ القتال مستمرّ، كان جواب الوزير “عُلم!”، وأقفل الخطّ.

حرمت نتائج الحرب، وإمعان القيادة في تغطية فضيحتها، المئات من أبطال الجيش السوري من شرف الذكرى، وهم الذين قاتلوا ببسالة في معركة كبيرة في “تل الفخار”، واستشهدوا على أرض المعركة، كما كبّدوا لواء غولاني الشهير المئات من الإصابات والقتلى.

قد يكون عبدالناصر أكثر التصاقاً بالواقع من مخابيل البعث. فذهب بعد “النكسة” ليتعلّم من دروسها، وقبِل بمشروع روجرز للتسوية ووقف حرب الاستنزاف المكلفة لمصر

حماية البعث لا سورية

في اليوم التالي للهزيمة، ظهرت الصحف ووسائل الدعاية في سورية لتؤكّد الانتصار “لأنّ العدوّ فشل في القضاء على الطليعة الثورية الوحيدة المؤهّلة لقيادة الأمّة العربية في معارك النصر في الجولات المقبلة”، أي أنّ سورية وأراضيها لم تكن هدف العدوّ من عدوانه، بل كان حزب البعث السوري. وبما أنّ البعث بقي، فيعني أنّ البعث انتصر، حتى وإن هزِمت سورية ودمّرت طائراتها ودبّاباتها وقتل جنودها واحتلّ الجولان. لكنّ وحدات الجيش الموكلة بحماية النظام والميليشيات التابعة لها انسحبت من المعركة مبكراً لحماية البعث!

أدلى وزير الخارجية السوري الدكتور إبراهيم ماخوس بتصريح عجيب هذا نصّه: “ليس مهمّاً أن تسقط دمشق أو حتى حلب وحمص، فهذه كلّها أراض يمكن استرجاعها وأبنية يمكن تعويضها، أمّا إذا قُضي على حزب البعث فكيف يعوّض عنه وهو أمل الأمّة العربية؟ لا تنسوا أنّ هدف العدوان هو القضاء على الحكم التقدّمي في سورية، وكلّ من يطالب اليوم بإسقاط الحزب هو عميل لإسرائيل”.

قد يكون عبدالناصر أكثر التصاقاً بالواقع من مخابيل البعث. فذهب بعد “النكسة” ليتعلّم من دروسها، وقبِل بمشروع روجرز للتسوية ووقف حرب الاستنزاف المكلفة لمصر المحدودة الموارد. لكنّه كالعادة تعرّض للاتّهام والتشهير من قبل غلاة البعث السوري، وبعض منظّري اليسار الثوري العربي. كما شمت به “الإخوان المسلمون” معتبرين الهزيمة انتقاماً لمرشدهم سيّد قطب الذي أُعدم سنة 1966.

لكنّ الموت أراح عبدالناصر من كلّ ذلك، وحرّره من وزر التوفيق بين قبائل العرب المتناحرة ومن حروبها، وكانت آخرها حرب الأردن بين المنظّمات الفلسطينية وجيش الملك. بعض محبّي عبدالناصر ينسبون نجاح معركة العبور سنة 1973 إليه، وذلك بعدما تعلّم الدروس من الهزيمة.

إقرأ أيضاً: 2024: بداية مشروع تتريك سوريا؟

الخوف من نشوة الانتصار

لماذا أعود إلى هذا التاريخ المضني بشجونه؟

لأنّني أخاف على القوى الظافرة اليوم في سورية من الانتشاء بمرض الانتصار، فيتحوّل رموز هذه الثورة إلى أيقونات مقدّسة غير قابلة للنقد ولا للنقض، وأدعوهم إلى أن يستفيدوا من خبرة من سبقهم بالعودة إلى الأرض والناس، الذين تحمّلوا ذلّ البقاء تحت الخوف والإرهاب، ورزحوا في السجن الكبير الذي حبس البعث فيه سورية منذ 1963. إنّ التعطّش للحرّية قد يدفع البعض إلى المبالغة في المطالبة بها، وعلى من هم في السلطة ألّا تأخذهم العزّة بإثم القمع لمجرّد أنّهم منتصرون.

كلامي هذا لأنّني أحرص على القيادة الجديدة، وأفتخر بنضالها الطويل وتضحياتها. ونحتاج نحن في لبنان كما المنطقة بأجمعها إلى سورية عزيزة، كريمة ومزدهرة بمواطنيها كلّهم.

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

هذا هو الرّئيس!

رحم الله سجعان قزّي. أروع من رصّع صورة رئيس الجمهورية، حين وضعَ على لسان بشير الجميّل في خطاب أنطلياس الشهير في تشرين الثاني 1981، هذه…

جورج خوري: تقاطع المستعصين

صعد في الأيام الأخيرة المدير السابق للمخابرات والسفير السابق في الفاتيكان العميد جورج خوري كأحد الأسماء المرشّحة بقوّة لانتخابات الرئاسة. لم يكن في صدارتها في…

2025: ترامب العائد.. يربك أميركا والعالم

إنّه عام يشبه انتخابات أميركا الرئاسية، التي كلّ شيء فيها وارد. فقد شهد هذا العام أكبر عودة في التاريخ السياسي لرئيس بعدما وصل طالعه السياسي…

لبنان في حاجة إلى رئيس من “خارج الصندوق”

تغيّر الوضع الإقليمي ولم يتغيّر اللبنانيون بعد. ما زالت الطبقة السياسيّة ترفض أخذ العلم بالواقع الإقليمي الجديد الذي ولد من رحم “طوفان الأقصى”، وهو الهجوم…