12 ليلة سوريّة أطاحت أحلام موسكو “بالمياه الدّافئة”

مدة القراءة 7 د

خلال 12 يوماً فقط، هدمت “جبهة تحرير الشام” والفصائل السوريّة المتحالفة معها الآمال  الروسيّة على مدى عقود لكسب موطىء قدم دائم على شواطىء البحر المتوسّط من البوّابة السوريّة.

وصول الروس إلى المياه الدافئة حلم قديم راود القياصرة والسوفيت، بعدما فشل أبرز قادتهم التاريخيين، بطرس الأكبر، في تحقيق ذلك، بعد تلقّيه هزيمة قاسية في معركة أوزف عام 1696، عندما صدّ السلطان العثماني أحمد الثالث محاولة القيصر الروسي العبور نحو البحر الدافىء، وكاد يقع أسيراً لدى الجيش الانكشاري لولا الرشوة التي تلقّاها البلطجيّ محمد باشا، وسمح للقيصر المحاصَر بالفرار.

 

تمكّن السوفيت من تحقيق الهدف في ستّينيّات القرن الماضي، عندما وقّعوا عام 1971 مع نظام حافظ الأسد اتفاقية تنصّ على بناء قاعدة عسكرية بحريّة سوفيتيّة في ميناء طرطوس، لدعم الأسطول السوفيتي في البحر المتوسّط. ثمّ تحوّلت إلى مركز دعم لوجستي وتموين للسفن التابعة للبحرية الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وما لبث الرئيس فلاديمير بوتين مدفوعاً بأحلام إمبراطوريّة أن أبرم اتّفاقاً جديداً مع دمشق عام 2017 لاستئجار ميناء طرطوس لمدّة 49 سنة.

لضمان حرّية الملاحة بين الموانىء الروسيّة في البحر الأسود وميناء طرطوس، تجاوز قيصر روسيا الجديد رواسب الحروب العثمانية الروسيّة (12 حرباً)، وأزمة إسقاط أنقرة للمقاتلتين الروسيّتين، وشرّع باب التعاون مع أنقرة  على مصراعيه، بدءاً من خطوط نقل الغاز عبر تركيا إلى صفقة “إس إس 400″، وصولاً إلى التشارك الكامل في عملية آستانة لإدارة الأزمة السورية.

مصير القواعد غامض

ظلّ التعاون قائماً حتى جاء السقوط المدوّي لنظام حليفه بشار الأسد على يد المعارضة السورية المدعومة من أنقرة، وصار مصير القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم والقامشلي غامضاً وشديد التعقيد، بعدما صار خصومه السوريون الذين صبّ عليهم نيران مقاتلاته حكّام سوريا الجدد.

لم تستوعب موسكو الصدمة بعد. وعندما انتشرت أنباء سقوط النظام، أظهرت صور الأقمار الصناعية أنّ القوات كانت تستعدّ لإخلاء قاعدة حميميم

يقول النائب السابق لرئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إنّ سوريا تشكّل نقطة استراتيجيّة في منطقة تمتدّ منها ومن لبنان مروراً بالعراق وإيران ثمّ جنوباً باتّجاه اليمن. وتعتبر هذه المنطقة منطقة مقاومة للنفوذ الأميركي المتمركز في دول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن أنّه من الساحل السوري يمكن بسهولة إرسال منتجات النفط والغاز الروسيَّين إلى الحلفاء، وخصوصاً إيران، وأيضاً إلى مراكز النفط والغاز الكبرى في اليونان وإيطاليا وشمال إفريقيا وغربها وشرقها.

يشكّل الوجود العسكري والبحريّ الروسيّ في سوريا خطّاً أحمر بالنسبة إلى موسكو، لأنّ قاعدتَي حميميم الجوّية وطرطوس البحرية تحوّلتا بعد انتهاء العمليات العسكرية النشطة في سوريا إلى القيام بمهمّات ذات بعد استراتيجي. ذلك أنّهما تُعدّان ركيزة أساسية للوجود الروسي الحربي في منطقة الشرق الأوسط والقارّة الإفريقية، وأنّ مهمّات السفن الحربية والبوارج الروسية تعتمد كثيراً على قاعدة طرطوس، التي باتت تشكّل أهمّية خاصّة لرفد التحرّكات البحرية في المحيطات. وهو أمر بالغ الأهمّية في ظلّ القيود المفروضة على مرور السفن العسكرية عبر مضائق البحر الأسود بموجب اتفاقية مونترو. كما أنّ القاعدتين تشكّلان معادِلاً مهمّاً لوجود حلف شمال الأطلسي في المنطقة، وخصوصاً في تركيا.

من “إرهابيّين” إلى إسلاميّين

لم تستوعب موسكو الصدمة السوريّة بعد. وعندما انتشرت أنباء سقوط النظام، أظهرت صور الأقمار الصناعية أنّ القوات الروسية كانت تستعدّ لإخلاء قاعدة حميميم سريعاً. وقبل فترة قصيرة كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يصف حكّام سوريا الجدد بأنَّهم “جماعات إرهابية”. ولكن سريعاً ما أطلق عليهم اسم “معارضين”، وباتت لهجة موسكو إزاء  الإسلاميين أكثر تهذيباً.

 الاتحاد الأوروبي الذي تعوّل عليه دمشق الجديدة كثيراً لفتح باب المساعدات الإنسانية ورفع العقوبات وإعادة الإعمار، يرفض بشدّة بقاء الروس في سوريا

قال لافروف إنّ بقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا يعتمد على توافق المصالح مع السلطات السورية الجديدة. وأضاف خلال مؤتمره الصحافي السنوي: “نحافظ على علاقات مع كلّ المجموعات التي تسيطر على الوضع هناك، ومع كلّ دول المنطقة. وغالبية الدول الإقليمية تؤكّد لنا أنّها مهتمّة ببقاء قواعدنا العسكرية في سوريا”. ورأى أنّ روسيا تنظر في وجود قواعدها في سوريا أو الانسحاب، لكن قبل ذلك “يجب النظر كيف ستتطوّر العلاقات مع القوى السياسية التي تسيطر الآن وستسيطر على الوضع في سوريا مستقبلاً، حيث إنّ بقاءنا سيعتمد على توافق المصالح مع السلطات الجديدة هناك” . وشدّد أيضاً على أنّ القيادة الجديدة في دمشق يجب ألّا تُوصف بالإرهابية.

موسكو

مفاوضات بين موسكو و”الهيئة”

بحسب مجلّة “ذا إيكونوميست”، تجري الآن مفاوضات مكثّفة بين روسيا و”هيئة تحرير الشام”، التي أصبحت قوّة رئيسية في سوريا الجديدة. والمفاجأة في هذه المفاوضات تكمن في أنّ “هيئة تحرير الشام” أظهرت مرونة ملحوظة في قبول استمرار الوجود العسكري الروسي. ويقول أحد قادة الهيئة: “لا توجد خطوط حمر. يعتمد الأمر على المصالح وليس الأيديولوجية”. لم تستبعد المجموعة إبقاء القواعد الروسية، وأبدت استعدادها للاحتفاظ بالاتفاقية التي وقّعها الروس في شأن تأجير ميناء طرطوس.

قد يبدو ذلك غريباً نظراً إلى الانخراط الروسي الكبير في إطالة عمر نظام الأسد والتسبّب بخسائر فادحة للسوريين، وخصوصاً المعارضين السابقين الذين تولّوا السلطة. لكنّ البعض يعتقد أنّ السلطات الجديدة في سوريا تواجه معضلة معقّدة، إذ تحتاج إلى الاعتراف الدولي، وقد تصبح القواعد الروسية ورقة رابحة في هذا السياق، لا سيما أنّ الدول الغربية لا تزال متردّدة في الاعتراف بحكومة في سوريا تضمّ فصائل مدرجة عالمياً على لوائح الإرهاب.

القواعد الروسية في سوريا تُعَدّ بوّابة موسكو إلى القارّة السمراء، وتشكّل جسراً قريباً جغرافيّاً ومحدود التكلفة مادّياً

مقايضة القواعد الرّوسيّة

يرى البعض أنّه يمكن للسلطة الجديدة أن تقايض الوجود العسكري الروسي بالحماية من الهجمات الإسرائيلية، التي لم تتوقّف ضدّ الأراضي السورية والمقدّرات العسكرية السورية، بما في ذلك تهديد بعض فصائل المعارضة السابقة. وفي حال قرّرت الولايات المتحدة دعم المسلّحين الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فإنّ بقاء القواعد العسكرية الروسية يمكن أن يشكّل عامل توازن مع الوجود العسكري الأميركي.

في المقابل، فإنّ الاتحاد الأوروبي الذي تعوّل عليه دمشق الجديدة كثيراً لفتح باب المساعدات الإنسانية ورفع العقوبات وإعادة الإعمار، يرفض بشدّة بقاء الروس في سوريا.

على الرغم من المشاعر الشعبية المُعادية لروسيا، يبدو أنّ السلطات الجديدة على استعداد لتبنّي مقاربة براغماتية بالسعي إلى تحقيق توازن في علاقاتها الخارجية يرفع عنها تهمة أنّها أداة في يد تركيا. وقد تشكّل القواعد الروسية ورقة مهمّة في المفاوضات حول مستقبل سوريا. كما أنّ لروسيا إمكانات اقتصادية كبيرة وشبكة علاقات دولية واسعة وصاحبة فيتو في مجلس الأمن.

خيارات موسكو البديلة

أمّا إذا اضطرّت موسكو إلى سحب قواعدها، فخياراتها البديلة محدودة، وأكثرها ترجيحاً ليبيا حيث تقيم علاقات وطيدة مع الجنرال خليفة حفتر. وقد تكون طبرق المكان الأنسب لإقامة قاعدة بحرية بديلة، لكن ليس فيها بنية تحتية جاهزة. والأمر نفسه ينطبق على ميناء بورسودان على البحر الأحمر، لكنّ أيّاً من هذه القواعد لا يمكن أن تحلّ مكان طرطوس.

إقرأ أيضاً: أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

في أيّ حال، إذا كانت إيران الخاسر الأكبر في ما حدث في سوريا، فإنّ الخسارة الاستراتيجية التي تلقّتها روسيا هائلة، قياساً على حجمها الدولي وطموحاتها لاستعادة ماضيها كقطب مناهض للولايات المتحدة. ومن شأن الصفعة السوريّة أن تحوّلها من قوّة دولية صاعدة إلى قوّة إقليمية محدودة التأثير عالمياً ومحاطة بالأسوار والألغام والخصوم. وقد تكون سبباً لخسارة المواقع التي كسبتها أخيراً في أرجاء إفريقيا، ذلك أنّ القواعد الروسية في سوريا تُعَدّ بوّابة موسكو إلى القارّة السمراء، وتشكّل جسراً قريباً جغرافيّاً ومحدود التكلفة مادّياً.

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…