الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

مدة القراءة 7 د

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية بعد سقوط النظام.

بعد عشر سنوات، انتصر الجولاني على النظام، ودخل دمشق فاتحاً، لكنّ تصريحاته ومواقفه تدلّ على أنّه أقرب إلى إقامة دولة المواطنة أو “الدولة الوسيطة” بتعبير أدقّ، من تأسيس إمارة إسلامية، كما كان يدعو من قبل. فهل حدث تحوّل جذري في أفكاره خلال السنوات المنصرمة؟ وما هي الأدلّة أو الفتاوى التي يمكن أن يستند إليها بالنظر إلى مرجعيّته الإسلامية، فضلاً عن أنّ تنظيمه كان فيما مضى جماعة جهادية لا تتساهل في مثل هذه الأمور؟

 

في اللقاء الدمشقي بين وفد دروز لبنان، بقيادة الزعيم وليد جنبلاط، وأحمد الشرع قائد الإدارة العسكرية، في 22 الشهر الجاري، قدّم شيخ العقل، الدكتور سامي أبي المنى، رسالة مهمّة في مضامينها إلى الشرع، يدعوه فيها إلى إقامة دولة المواطنة. وهي حلّ وسط، برأيه، بين العلمانية المرفوضة عند معظم الشعب السوري خشية الانجراف في تيّار الإلحاد، ودولة دينية متشدّدة تُشعر الأقلّيات بشعور “الذمّيَّة” والإهانة. والسبيل الوسط بين هذه وتلك، هو قيام دولة المواطنة، أي دولة الحقوق والواجبات، دولة الوطنية الجامعة التي تقضي باحترام الخصوصيات الدينية واحترام القيم الدينية، وكلّ ما يساهم في صون العيش المشترك، على غرار ما نصّ عليه الدستور اللبناني. فلا يكون الولاء نوعاً من التبعية القسرية، بل نوع من الشراكة الفعلية.

لكنّ أحمد الشرع، في خطابه السياسي منذ دخول دمشق، يستعمل مصطلحات غريبة عن ماضيه الجهادي القريب. وهي توحي كلّها، وكأنّه بات من أنصار المجتمع المدني. فهل استبق النصيحة قبل صدورها من شيخ العقل؟ أم هي مراجعة فكرية عميقة وواقعية ترسّخت لدى الشرع في “دولة إدلب”، قبل سنوات، ولم ينتبه إليها أحد قبل الآن؟

الشرع في خطابه السياسي منذ دخول دمشق، يستعمل مصطلحات غريبة عن ماضيه الجهادي القريب وكأنّه بات من أنصار المجتمع المدني

ما هي مستندات أحمد الشرع في توجّهاته الجديدة؟ وهل هو يسعى فعلاً إلى بناء دولة وطنية، تراعي الأكثرية الإسلامية ولا تحرم الأقلّيات من حقوقهم في المشاركة في السياسة والإدارة من دون أيّ قيود؟

فتوى منسيّة لابن تيميّة

قد يستغرب كثير من الناس، إن قيل لهم إنّ الفقيه الدمشقي الحنبلي الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً للجماعات السلفية المعاصرة، قد يكون من منظّري البراغماتية السياسية، التي تقضي بالتعايش السلمي داخل دولة غير إسلامية، وفق موازين وظروف غير ملائمة لإقامة دولة إسلامية بحتة تُطبّق فيها الشريعة على الجميع، أو تُفرض عليهم بتعبير أدقّ.

الشرع

إنّ الشائع عن ابن تيمية في زماننا ما يخالف هذه الوجهة تماماً، وأنّه من دعاة العنف لتطبيق الشريعة، مهما تكن المعادلات أو الظروف السائدة. وفي واقع الأمر، إنّ ابن تيمية من الفقهاء الذين يرجعون بكثرة إلى مقاصد الشريعة في فتاويهم، وكذلك الأمر في السياسة وأحكامها وظروفها المتغيّرة.

لقد عاصر ابن تيمية الخطر المغولي على بلاد الشام، وكان المغول يحتلّون بلداناً إسلامية في الشرق، وفيها مسلمون، وقد عيّن الحكّام الجدد، قضاة مسلمين للنظر في النزاعات الناشبة بين الرعايا المسلمين. استُفتي ابن تيمية، فأجاز عمل القاضي المسلم لدى الحاكم المغولي غير المسلم، وذلك تخفيفاً للضرر في حالة الامتناع، وتوقّياً من وقوع الأسوأ، لو رفض القاضي المسلم العمل في دولة المغول.

القواعد الفقهيّة

أمّا القواعد الفقهية التي استند إليها ابن تيمية في حكمه هذا، فهي كما يلي:

1- إذا تعارضت الحسنات والسيّئات في وضعية واحدة، ولم يكن ممكناً التفريق بينهما، فإمّا فعلهما معاً أو تركهما معاً، فيُرجّح تحصيل أعظم المصلحتين والتخلّي عن أدناها، ودفع أعظم المفسدتين بارتكاب المفسدة الأقلّ.

مؤدّى تطبيق هذه القاعدة على مسألة القاضي المسلم في دولة المغول غير المسلمة، أنّ ولاية القاضي المسلم عند المغول، تحصّل مصلحة أكبر للمسلمين من ارتكاب مفسدة التعامل مع دولة ظالمة وغير مسلمة. كما أنّ هذه الوظيفة تدفع مفسدة أعظم بارتكاب مفسدة أقلّ شأناً.

الداخل حديثاً في الإسلام، لا يمكن أن يتلقّى كلّ الأحكام، فلا يمكن أن يؤمر بها جميعاً. وكذلك التائب من الذنوب، لا يمكن أن يؤمر بكلّ الواجبات

هذه قاعدة بالغة الأهمّية، وتناقض كلّ تصرّفات الجماعات الجهادية التي زرعت الفوضى في بعض البلدان الإسلامية، تحت عنوان الولاء والبراء، أي الولاء للمسلمين والبراءة من المشركين. كما أنّها تندرج ضمن السياسة الشرعية التي أجمع عليها الفقهاء والتي تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد في أيّ عمل.

2- يقول ابن تيمية إنّ الله وضع قيوداً على تنفيذ أوامره، لا سيما القدرة، والاستطاعة، فقال) :فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(- (سورة التغابن، الآية 16)، وقال: (لا يُكلّف اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)- (سورة البقرة، الآية 286). بل إنّه يُجيز ولاية السلطان حتى وإن كان لا يمكنه أداء الواجبات ولا ترك المحّرمات.

من هذا الباب، عندما تولّى النبيّ يوسف منصباً وزارياً مهمّاً لدى فرعون مصر، قد يكون وزارة التموين في أيّام القحط، أو المالية، أو ما هو أرفع من ذلك. وهو دعاهم إلى الدين فلم يستجيبوا له. وهو من منصبه الحيويّ كوزير مالية أو ما شابه، كان يشرف على جباية الأموال، ويأمر بصرفها على الدوائر المختلفة، ومنها على الملك وحاشيته وجنده وأعوانه. ولا تكون قراراته جاريةً بالضرورة على سُنّة الأنبياء وعدلهم. وهو من قبيل ترك الواجب لعذر، وفعل المحرّم لعذر.

يضرب ابن تيمية مثلاً آخر، وهو حالة النجاشي ملك الحبشة، الذي أسلم أيّام الرسول، وكان مسيحياً، ورعاياه مسيحيون. فلا تمكّن من تحويلهم إلى مسلمين، ولا هو تخلّى عن الإسلام، وبوضعه هذا، لم يكن متاحاً له التعرّف على كامل أحكام الإسلام. ومع ذلك، عندما توفّي النجاشي، أقام النبيّ في المدينة صلاة الغائب عليه. فهنا حالتان لحاكم مسلم على شعب غير مسلم.

3- هناك قاعدة أخرى، وهي: إذا أردتَ أن تُطاع، فأمُر بالمستطاع. وتنطبق القاعدة على حالة المجدّد لدينه والمُحيي لسنّته، حسب تعبير ابن تيمية. فلا يحاسب أحداً إلّا على ما أمكن تعلّمه من أحكام الدين، والعمل به كذلك.

قد يستغرب كثير من الناس، إن قيل لهم إنّ الفقيه الدمشقي الحنبلي الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً للجماعات السلفية المعاصرة

الداخل حديثاً في الإسلام، لا يمكن أن يتلقّى كلّ الأحكام، فلا يمكن أن يؤمر بها جميعاً. وكذلك التائب من الذنوب، لا يمكن أن يؤمر بكلّ الواجبات، ولا يمكنه أن يطيق ذلك. وفي هذه الحالة، لا يكون واجباً عليه تطبيق هذه الأحكام. ولذا، لا يكون للعالِم ولا للأمير أن يأمره بها، ولا أن يحاسبه عليها. وهذا كلّه في مرحلة انتقالية أو وسيطة قد تطول. والكلام هنا عن المسلمين، فما بالك بغير المسلمين؟

إقرأ أيضاً: سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

إلى ذلك، فإنّ تطبيق الشريعة متعلّق بالقدرة. والمكلّف بإنفاذها هو الأمير أو الحاكم. ولا توجد دولة معاصرة لديها التمكين بالمصطلح الفقهي، ولا السيادة بالمصطلح الدستوري الحديث، حتى تُسأل الدولة السورية أو حكّامها، كما لو كانت تامّة التمكين والسيادة. ومن هذه الناحية، فموقف الجولاني أو أحمد الشرع يندرج ضمن أحكام السياسة الشرعية، ووفق فتاوى ابن تيمية (راجع مجموع الفتاوى، الجزء 20، ص 48-60).

 

لمتابعة الماتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…

12 ليلة سوريّة أطاحت أحلام موسكو “بالمياه الدّافئة”

خلال 12 يوماً فقط، هدمت “جبهة تحرير الشام” والفصائل السوريّة المتحالفة معها الآمال  الروسيّة على مدى عقود لكسب موطىء قدم دائم على شواطىء البحر المتوسّط…