الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة المشهد في الوقت الحالي تظهر أنّ غالبية الإسرائيليين يعتبرون أنّ الساعة مؤاتية كي تدفع طهران الثمن المباشر لحروب الواسطة وحزام النار الذي بنته حول إسرائيل.
لكن يبدو أنّ مشهداً آخر آخذ بالتشكّل. إذ بدأت التحذيرات في الصحافة الإسرائيلية من سياسة “إضعاف إيران”، في الوقت الذي أخذ يرتسم تشكيل “محور سنّي” في سوريا بقيادة تركيا. فأيّ مشهد سيغلب: الاستمرار بإضعاف إيران وضرب منشآتها النووية كما يخطّط نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرّفة؟ أم إضعافها الذي لا يصبّ في مصلحة إسرائيل؟
كلّ السيناريوهات مطروحة، بدءاً من ضرب المنشآت النووية والنفطية، مروراً بسيناريو إسقاط النظام ووصولاً إلى خيار انكفاء أجندة إضعاف إيران. العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل معقّدة جدّاً، ولا يمكن فهمها فقط من خلال المواجهة الدائرة منذ سنوات والرهانات التي تتحكّم بها.
إذ من غير المستبعد، وعلى وقع التطلّع مجدّداً إلى الفرس ودورهم في إنقاذ اليهود من السبي البابليّ، أن يعود هذا التاريخ ويفرض نفسه في مواجهة ما تخشاه طهران وتل أبيب من قيام “مشروع سنّي” في المنطقة. فكيف تبدو المواقف في إسرائيل بين هذه المشاهد؟ وكيف يبدو بنظرهم إخراج إيران من اللعبة في سوريا؟
المعركة في سوريا على مستقبل إيران
أعادت المفاجأة، التي أحدثها انهيار نظام بشار الأسد وسقوطه بسرعة مذهلة، إلى الواجهة أهمّية سوريا في رسم المعادلات الإقليمية الجديدة، والقيمة الاستراتيجيّة التي كانت تمثّلها في المشروع الجيوسياسي الإيراني في شرق المتوسّط.
في مقالته في صحيفة معاريف بعنوان “إيران قد تجد نفسها خارج اللعبة في سوريا، وهذا هو المثلّث الجديد”، كتب أفيرام بلايش: “يبدو أنّ المعركة في سوريا بين المتمرّدين والجيش السوري النظامي ليست معركة على مستقبل سوريا وحسب، بل هي أيضاً معركة على مستقبل إيران في الشرق الأوسط”.
لم يستوعب خامنئي الهزيمة في سوريا وله مصلحة باستعادة “المكانة الإقليمية” المتراجعة
شرح الكاتب في مقالته النقاشات الواسعة التي كانت تجري في إيران عن هذه التطوّرات، والتي كانت تتركّز على قراءتين: الأولى تتناول التهديد الخطير لمكانة إيران في سوريا، والثانية ترى الفرص المتاحة لها للحفاظ من جديد على مكانتها الاستراتيجية.
أشار الكاتب إلى أنّ أحد التحليلات الإيرانية ركّز على أنّ ما يجري في سوريا يشكّل “تهديداً خطِراً لمكانة إيران في سوريا”. وقد قرأت طهران الأحداث على النحو التالي: “لقد شُكّل تقاطُع مصالح، سواء بوعي أو من دون وعي، بين كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وروسيا في سوريا، بهدف إخراج القوات الإيرانية وحلفائها من سوريا”.
يمثّل هذا التقاطع في المصالح تهديداً حقيقياً للوجود الإيراني في المنطقة. وأضاف أنّهم “لا يعتقدون أنّ الأمر يتعلّق بمؤامرة بين روسيا والولايات المتحدة بقيادة جو بايدن”، بل يعتبرون أنّ هناك تفاهمات منفصلة بين روسيا وإسرائيل من جهة، وتركيا وروسيا من جهة أُخرى، وهو ما يشكّل خطراً على إيران.
كشف أفيرام بلايش في مقالته، نقلاً عن محلّلين إيرانيين، الخطأ الذي وقعت فيه إيران، فكتب: “وفي السياق التركي، يشير المحلّلون إلى أنّ الخطأ الأكبر للنظام الإيراني هو تقويمه الخطر القادم من إسرائيل والولايات المتحدة باعتباره التهديد الرئيسي لإيران، وليس تحوّل تركيا إلى قوّة إمبرياليّة”. وكشف أفيرام أيضاً عن أحد السيناريوهات التي استعدّت له طهران منذ احتلال المعارضة لمدينة حلب، وهو “أن تجد نفسها خارج اللعبة في سوريا”.
إيران تخسر امتدادها إلى البحر المتوسّط
في وصف التأثير الكبير الذي أحدثه خروج إيران من المشهد السوري، كتب عاموس بادلين (رئيس جهاز الاستخبارات سابقاً) وأوري أفينتال (عقيد في الاحتياط) في مقالة نشرت على موقع N12 العبريّ بعنوان: “هذه إشارة إلى تغيُّر الشرق الأوسط بأسره. “الحزب” عالقٌ من دون الأسد”.
أعادت المفاجأة، التي أحدثها انهيار نظام بشار الأسد وسقوطه بسرعة مذهلة، إلى الواجهة أهمّية سوريا في رسم المعادلات الإقليمية الجديدة
أضافا أنّ “المحاور البرّية والجوّية الواصلة بين إيران وسوريا، وصولاً إلى لبنان، قد قُطعت”. ومن المتوقّع برأيهما “أن يتوقّف مسار إعادة ترميم “الحزب” عسكرياً، بعد الحرب مع إسرائيل، وأن يوجّه “الحزب” قدراته الباقية نحو التهديد السنّيّ القادم من سوريا وحماية نفسه داخلياً”.
في قراءة للمشهد الجيوسياسي الجديد الذي فرضه سقوط نظام الأسد، اعتبر الكاتبان أنّ هذا الأمر قد شكّل “ضربة حطّمت الفكرة الاستراتيجية التي وضعها قاسم سليماني، والحاجّ محسن، ويحيى السنوار، والمتمثّلة في إحاطة إسرائيل بـ”حزام النار” واستنزافها عبر توحيد ساحات القتال، حتى تدميرها”.
أضافا: “خسر المحور ساحة أُخرى ذات أهمّية جغرافية ولوجستية واستراتيجية حاسمة، بالنسبة إلى إيران، باعتبارها امتداداً جغرافيّاً يصلها بالبحر المتوسّط، وجبهة مباشرة ضدّ إسرائيل، وممرّاً ضرورياً لإعادة بناء القوّة العسكرية لـ”الحزب” في لبنان”.
إضعاف إيران يغذّي طموحات تركيا
تعتقد الأكثرية المطلقة من النخب السياسية والعسكرية والفكرية في إسرائيل منذ سنوات بعدم جدوى البحث عن أيّ تسوية مع المرشد الحالي في طهران. وبعد إخراج إيران من اللعبة في سوريا الذي يعتبره بنيامين نتنياهو من “إنجازات ضرباته لـ”الحزب” والحرس الثوري على الأراضي السوريّة”، ارتفعت الأصوات المنادية باستغلال “اللحظة التاريخية المناسبة” لتدمير البرنامج النووي واستهداف النظام برمّته.
لكنّ مشهداً آخر بدأ يظهر في إسرائيل، إذ أخذ بعض النخب يدعو إلى التبصّر بنتائج “إضعاف إيران” بعد إخراجها من المشهد السوري. وحالياً، يُفتح في إسرائيل النقاش عن “أخطار” “ولادة محور سنّي” بقيادة تركيا.
كتب يعقوب عميدرور في صحيفة معاريف عن ولادة هذا المحور القادر على إلحاق الضرر بإسرائيل. كما كتب أفرايم عنبار في معهد القدس للدراسات الاستراتيجية والأمن مقالة تحت عنوان: “سقوط نظام الأسد لا يعني أنّ سوريا والشرق الأوسط أصبحا مكاناً آمناً”، قال فيها إنّ “احتمال إقامة دولة إسلامية مدعومة من تركيا على حدودها الشمالية ليس خياراً جذّاباً بالنسبة إلى القدس”.
الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى
أضاف: “إضعاف إيران، الخصم التاريخي للعثمانيين، يُغذّي حتماً طموحات تركيا ومغامراتها”. وذكّر نائب رئيس جامعة تل أبيب إيال أيسر بمقالته في “يسرائيل هيوم” بعنوان “عندما تتحوّل تركيا إلى إيران”، بما قاله المستشرق برنارد لويس من أنّه سيأتي الوقت الذي “ستصبح فيه إيران تركيا، وتتحوّل تركيا إلى إيران”.
برأي أيسر، ما أراد قوله لويس هو أنّ “الدولة الأولى ستصبح معتدلة بينما الثانية ستصبح جمهورية إسلامية متطرّفة وستضعف”. وتابع الكاتب: “إردوغان يريد طرد إيران الشيعية من المنطقة، والعداء لإسرائيل هو الغراء الذي يحاول بواسطته لصق كلّ أجزاء الأحجية الشرق الأوسطية وضمان سيطرته عليها”.
هذا المنطق يتمّ تداوله أيضاً في الصحافة الإيرانية نقلاً عن تصريحات لإردوغان قال فيها إنّ “الانقسامات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى حالت دون جعل حلب وحماة وحمص وإدلب جزءاً من تركيا، كما غازي عنتاب وإسطنبول”. ويصف الإيرانيون هذه التصريحات بأنّها “تفوح منها رائحة العودة إلى التاريخ وإحياء الإمبراطورية العثمانية”، ويتّهمون إردوغان بأنّه “لا يمانع ضمّ شمال سوريا إلى بلاده”.
خامنئي ونتنياهو والعدوّ المشترك
ثمّة قناعة لدى بعض النخب الإسرائيلية بأنّه سوف تظهر عاجلاً أم آجلاً الحاجة إلى مواجهة المحور الذي يتشكّل بقيادة تركيا وبحضور وازن لقطر. التوغّل الإسرائيلي في جنوب سوريا والإمساك بمرصد جبل الشيخ لهما علاقة وثيقة بمواجهة الحضور التركي الفاعل في سوريا.
بناء عليه، ثمّة أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوّة: إذا صحّت التقديرات الحالية ونشأ هذا المحور، هل باستطاعة نتنياهو مواجهة المحورين الشيعي والسنّي في الوقت نفسه؟ خامنئي ونتنياهو يلتقيان على التوجّس من “تركيا العثمانية”، ومن الممكن إذا قرّر نتنياهو مهادنة المحور الشيعي والاستثمار في غضب خامنئي من الدور التركي الفاعل في إخراج إيران من سوريا، أن تتلاقى المصالح الإسرائيلية والإيرانية على مواجهة “المحور الناشئ”.
تعتقد الأكثرية المطلقة من النخب السياسية والعسكرية والفكرية في إسرائيل منذ سنوات بعدم جدوى البحث عن أيّ تسوية مع المرشد الحالي
العودة من الشّبّاك السّنّيّ
خرجت إيران من الملعب السوري خالية الوفاض، وكما يقول المثل الفرنسي elle est rentrée la queue entre les jambes. لكنّها لا تزال لاعباً إقليمياً، وهي دولة على عتبة السلاح النووي، كما يقول الخبراء.
لم يستوعب خامنئي الهزيمة في سوريا وله مصلحة باستعادة “المكانة الإقليمية” المتراجعة. أصبحت خياراته محدودة، وقد يواجه عند دخول دونالد ترامب البيت الأبيض الشهر المقبل سياسة “الضغوط القصوى”، أو الضوء الأخضر الأميركي لنتنياهو كي يستهدف المنشآت النووية والنفطية الإيرانية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل والشيطان الذي لا تعرفه
هل ينتظر خامنئي أن تنضج في المنطقة أوضاع جيوسياسية جديدة تدفع إلى استعادة “المكانة” من شبّاك المواجهة مع “المحور السنّي”؟ أم يراهن على الخلاف في السياسة الخارجية بين تركيا وأحمد الشرع؟ وثمّة احتمال كبير أن يقوم بترميم محور طهران – بغداد – “الحزب” والاستعداد للاستثمار في سيناريو الفوضى الذي يأمله.
العودة إلى سوريا التي تبدو الآن مستحيلة ستبقى هدفاً استراتيجيّاً لخامنئي القلِق على نظامه.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.
لمتابعة الكاتب على X: