أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث عن خيارات وبدائل تتضمّن قبول الهزيمة والخسارة والاستعداد لاستخلاص الدروس بعد انهيار مشروعها وتفكّك شبكة حلفائها في الإقليم. لكنّها لم تفعل.
خسرت طهران نظام بشار الأسد، أحد أهمّ أعمدة سياساتها في المنطقة. فقدت أيضاً حظوظها في تحريك أوراق الميليشيات والفصائل المسلّحة، التي نقلتها من لبنان والعراق ونشرتها في سوريا. لم تعد تملك فرص وقدرات لقيادة ثورة مضادّة باسم الأسد ونظامه في وجه القوى السياسية التي فرضت التغيير، على عكس ما نجحت فيه، بالتنسيق مع روسيا، بالوقوف في وجه ثورة الشعب السوري والحؤول دون تحقيق مطلب التغيير وإسقاط النظام طوال 13 عاماً.
خسرت طهران أيضاً ما حرّكته من أوراق سياسية وعقائدية وأمنيّة واقتصادية لنشر مشروعها ما بين البحر الأبيض المتوسّط والخليج العربي. ما يقلقها الآن هو الصعود التركي والإسرائيلي في المنطقة، وشكل خارطة الطريق التي ستعتمدها لوقف زحف القوّتين على حساب دورها ونفوذها.
أين؟ وكيف سيتمّ ذلك؟
إيران قلقة
يعوّل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أوّلاً “على مجموعة من الشرفاء الأقوياء” لتغيير الوضع السوري الذي يهدف لنشر الفوضى لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية و”لتحقيق الهيمنة عبر تنصيب أنظمة استبدادية تخدم مصالحها أو التسبّب في انهيار الدول”.
ثانياً يرى خامنئي أنّ شباب سوريا سيستمرّون في معارضة الحكومة الجديدة التي ستنشأ بعد الإطاحة ببشّار الأسد، فليس لديهم ما يخسرونه “في ظلّ حالة عدم الأمان التي يعيشونها”. لا علم لإيران بعد بما عثر الثوّار عليه من سجون مكتظّة بضحايا حليفها وبالمقابر الجماعية وأدوات القتل والتعذيب التي طوّرها الأسد ضدّ خصومه قبل فراره إلى الحضن الروسي.
خسرت طهران أيضاً ما حرّكته من أوراق سياسية وعقائدية وأمنيّة واقتصادية لنشر مشروعها ما بين البحر الأبيض المتوسّط والخليج العربي
لم تتأخّر واشنطن التي تحارب إرهاب “هيئة تحرير الشام” في سوريا بإرسال وفد سياسي دبلوماسي رفيع إلى دمشق لتقديم التهنئة، وبحث فرص التنسيق والتعاون على طريق انتقال السلطة وبناء سوريا الجديدة. أولويّات أميركا في سوريا هي محاربة تنظيم “داعش”، وبناء دولة سوريّة توحّد كلّ شرائح المجتمع والأقلّيات وتبقي إيران خارج المشهد.
سيقود سقوط نظام بشار الأسد بهذا الشكل الدراماتيكي إلى أكثر من زلزال سياسي وأمنيّ واقتصادي في سوريا والمنطقة، وستكون له ارتداداته الواسعة على حلفائه وخصومه معاً. إيران في مقدَّم القلقين ممّا يجري بعد الضربات الإسرائيلية المباشرة ضدّها وضدّ المحور الذي تقوده في المنطقة، وبعد خروج أنقرة في طليعة الرابحين في سوريا.
هي تعتقد أنّ باستطاعتها تعويض خسارتها وتستردّ بعض ما فقدته في لبنان وسوريا والعراق قبل أن تفقد اليمن أيضاً. وتريد إبعاد الأنظار عن وضعها الداخلي وقطع الطريق على أيّ تحرّك شعبي عندها يحمّل قياداتها مسؤوليّة إيصال الأمور إلى ما هي عليه.
خيارات محدودة
خيارات طهران محدودة ما دامت تتجاهل الانكفاء والنقد الذاتي والبحث عن “أين أخطأنا”: إمّا الدخول في مواجهة عسكرية واسعة مع إسرائيل، أو إنجاز سريع لاختبار القنبلة النووية التي تملكها ولا تملكها… أو دعم حراك شعبي مضادّ في الدول التي خرجت منها أو قد تغادرها في أيّ لحظة.
هناك إجماع إقليمي غربي في ضوء المتغيّرات في موازين القوى وفي التحالفات الإقليمية، على أنّ خارطة جديدة تتشكّل، وتشمل صعود قوى وتراجع قوى أخرى، حتى ولو لم تتمّ تسمية ذلك بالبحث عن شرق أوسط جديد. هناك إجماع آخر على أنّه لم يعد من دور لإيران في مستقبل سوريا، ولا ينبغي أن يكون لها ذلك الدور المؤثّر في لبنان والعراق. ساحة المواجهة التي تنتظر دورها وغير المنضبطة حتى الآن ستكون في اليمن. هذا إذا ما نجحت في قطع الطريق على انفجار شعبي داخلي يحمّل القيادات مسؤولية الوصول إلى هذه النقطة من الانسداد والتراجع والخسائر الباهظة.
أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة
خيبة أمل إيرانيّة
هناك خيبة أمل إيرانية بعد الجهود التي بذلت لتفتيت سوريا وشرذمة شرائحها والتوغّل في أمنها واقتصادها وبنيتها الاجتماعية والدينية. الضربات الإسرائيلية لبنى “الحزب” في لبنان أسقطت ورقة النفوذ والتمدّد الإيرانيَّين هناك. وسقوط الأسد كشف عن ضعف إيران في سوريا. ورفض بغداد المطالب الإيرانية بخصوص فتح الحدود أمام انتقال الميليشيات المحسوبة عليها للقتال بجانب الأسد، تركها أمام ورطة تغيّر المعادلات السياسية والأمنيّة في سياسة العراق الإقليمية. فكيف ستنفّذ مخطّط الثورة المضادّة في سوريا؟
الرهان على تحالفها مع أكراد السليمانية والخدمات المقدّمة لقوات سوريا الديمقراطية في دير الزور والرقّة لن يكفيها حتماً.
لا يجوز طبعاً الاستخفاف بما تستطيع طهران فعله من تعريض الداخل السوري للخطر عبر ما بقي لها من أدوات متخفّية تنتظر الأوامر. كما لا يجوز تجاهل قدرتها على البحث عن فرص التكيّف مع الوضع الإقليمي الجديد، لقطع الطريق على تحدّيات داخلية مرتقبة، بعد الضربات الموجعة التي تلقّتها على أكثر من جبهة في الأشهر الأخيرة.
لم تعد أمام الطّاولة
هناك لحظات سياسية ودبلوماسية وتاريخية صعبة يعيشها المرشد في هذه الآونة. كانت طهران دخلت مرحلة العدّ التنازلي لتثبيت بيارقها فوق أكثر من تلّة وهضبة وصلت إليها في العمق الإقليمي وإعلان هيمنتها عليها، فوجدت نفسها خلال أسابيع تقاد نحو عزلة شبه دولية. من المبكر الحديث عن الطرف الذي سيجني أرباح المشهد السوري الجديد. الطبخة ما زالت على النار، لكنّ المؤكّد أنّ إيران لن تكون بين الحاضرين حول الطاولة.
لا علم لإيران بعد بما عثر الثوّار عليه من سجون مكتظّة وأدوات القتل والتعذيب التي طوّرها الأسد ضدّ خصومه قبل فراره إلى الحضن الروسي.
دعا المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي القيادة السورية الجديدة إلى الالتزام بتعهّداتها وفقاً للاتّفاقيات والعقود المبرمة مع النظام السابق، ودفع مستحقّات إيران المالية التي يقدّرها البعض بخمسين مليار دولار.
إقرأ أيضاً: رسالة تركيّة إلى سوريا الجديدة: هذه هي الأولويات
مصدر مقرّب من الإدارة السياسية الجديدة في سوريا يقول إنّه يجري العمل على إعداد مذكّرة ستقدّم للمحاكم الدولية، تتضمّن مطالبة إيران بدفع 300 مليار دولار تعويضات للشعب السوري والدولة السورية، عمّا سبّبته سياسات طهران مع ميليشياتها من ضرر للسوريين والبنية التحتية السورية، على طريقة عادل إمام هذه المرّة “اخصم ديونك وهات الباقي”.
لمتابعة الكاتب على X: