أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

مدة القراءة 7 د

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما ارتكبت من أخطاء أو ما تعرّضت له من خيبات. ولم يبقَ لهم صديق سوى الجبال.

تجربتهم الاستقلالية في مهاباد الإيرانية لم تكن نهايتها سعيدة، ونضالهم المرير الطويل في كردستان الشمالية في تركيا لم يؤتِ ثماراً، وكردستان العراق لا تزال تقاتل من أجل إقامة الدولة المستقلّة، من دون جدوى. اليوم تجربتهم الجديدة للحكم الذاتي في روجافا شرق الفرات في شمال سوريا، قيد الامتحان وفي عين العاصفة. فهل تنجو من تجارب مثيلاتها في الدول المجاورة؟ أم تسقط أيضاً حيث سقطت؟

 

كابد الأكراد نضالاً شاقّاً من أجل أن يديروا شؤونهم بأنفسهم من دون وصاية من أحد، لكنّهم لم يحصدوا سوى السراب. لم يتّكئوا على تضحياتهم الجبّارة من أجل تحقيق أهدافهم. ظنّوا أنّ الاستثمار في مصالح الدول الكبرى يحسّن فرصهم، لكنّهم تلقّوا الخيبات.

اعتاشت حركتهم القومية على خلافات دول الجوار والتناقضات التي تنشب من حين إلى آخر بين بغداد وطهران وأنقرة ودمشق، لكن مع كلّ تغيير في العلاقات بين العواصم وفي المصالح، كانت تتوالى النكسات على حركتهم القومية وتنهار أو تبدّل اتّجاهها وخطّ سيرها والتحالفات، وتعرّض أكرادها للإحباط تلو الإحباط.

المبالغة في تسويق المظلوميّة

بالغت الحركة القومية الكردية في تسويق مظلومية شعبها علّها تكسب شارعها وتحضّه على الاصطفاف خلفها لمواصلة انتفاضته. لكنّها أثارت بذلك خوف جيرانها والمكوّنات الأخرى التي تشاركها الأرض نفسها. هكذا بدلاً من أن تكون هذه المكوّنات عوناً لها وشريكاً، صارت خصماً ومناوئاً يخشى على وحدة بلده منها.

لم تنجح النخب الكردية في دمج مشروعها السياسي في مشروع إقليمي عابر للحدود، والتزمت الصمت حيال ما يجري في فلسطين

هكذا حصل مع التركمان والعرب والأشوريين في كردستان العراق، وهكذا يحصل مع الكلدان والعشائر العربية في روجافا. فشلت الحركة في تلطيف هواجس شعوب المنطقة التي وجدت محقّة في انفصال الأكراد تجزئةً لدولهم المقسّمة أصلاً وتسهيلاً للتدخّل الأجنبي في بلادهم. بل إنّ تمادي بعض الحركات الكردية في تعزيز علاقاتها مع إسرائيل وأميركا أو اللعب على التناقضات بين إيران وتركيا انصبّ في نشر السردية المضادّة التي صوّرت الأكراد أداة طيّعة لتنفيذ مخطّطات تآمرية استعمارية.

لم تنجح النخب الكردية في دمج مشروعها السياسي في مشروع إقليمي عابر للحدود، والتزمت الصمت حيال ما يجري في فلسطين من نكبات متلاحقة على يد الإسرائيليين، وهو ما أفقدها تعاطف الجوار والدعم الشعبي اللازم لنجاح مشروعها القومي الخاصّ. لم تتعلّم هذه النخب من دروس الحركات الانفصالية في أوروبا التي أكّدت التزامها إطاراً فوق وطني حدّده الاتحاد الأوروبي، بل آثرت التقوقع على نفسها والسقوط في العزلة الإقليمية.

ارتكاب الأخطاء نفسها

ارتكب حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه السياسي “وحدات حماية الشعب”، الذي شكّل عماد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، الأخطاء نفسها التي ارتكبتها الحركات القومية الأخرى في العراق وإيران وتركيا، وهو التذاكي على التناقضات الإقليمية والدولية وعدم بثّ الاطمئنان في المكوّنات التي تشاركه بيئته الاجتماعية والجغرافية، وعدم التمايز الفعلي والجدّي عن حزب العمّال الكردستاني، “العدوّ التاريخي” للأتراك، فأصبح هدفاً رئيسياً لأنقرة على عكس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الحاكم في أربيل بزعامة مسعود البارزاني، الذي يقيم أفضل العلاقات مع تركيا.

تجنّبت “قسد” الصدام مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وداعميه الإيرانيين، وحافظت على الصلات والروابط معهما في بدايات الأزمة السورية عام 2011، وأبعدت بذلك نار الحرب الأهلية عن مناطق سيطرتها. لكنّها بعد ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، الذي هدّد وجودها، فضّلت الاصطفاف خلف واشنطن واستفادت من الوجود العسكري الأميركي في مناطق نفوذها لوضع اليد على آبار النفط والغاز السوريَّين لتمويل جيشها وحكمها الذاتي وتطويره نحو الانفصال الكامل.

 القضاء على “قسد” أو تقويضها ليس من مصلحة أطياف واسعة من المجتمع السوري الكبير، أكراداً وغير أكراد

ابتعدت أكثر عن دمشق وصارت بالنسبة إلى أنقرة أكبر المخاطر على الأمن القومي التركي وألدّ الأعداء. اليوم سقط بشار وخرج الإيرانيون من سوريا، وباتت “قسد” وجهاً لوجه مع الحكم السوري الجديد وحلفائه الأتراك الذين يصنّفونها إرهاباً، فما العمل؟

واشنطن، حامية “قسد” وستارها الحديد، لم تحسم خياراتها بعد بين حليفتها الكردية وحكّام دمشق الجدد، الذين أبدوا حتى الآن كلّ التجاوب مع المطالب والرغبات الأميركية، مظهرين الوجه الحسن للغرب والمصالح الغربية.

الأكراد

سبق للأميركيين أن أحبطوا الاستفتاء الحاسم على تقرير المصير وإعلان الاستقلال، الذي قرّرته حكومة كردستان العراق قبل سنوات. فهل يكرّرون الأمر نفسه مع إدارة “روجافا”، لا سيما أنّ الرئيس العتيد دونالد ترامب قد يحبّذ انسحاباً أميركياً من سوريا ويترك الساحة خالية أمام صديقه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان؟ وهل يعقل أن يتّخذ إردوغان قراراً كبيراً بإسقاط نظام الأسد من دون التشاور مع الأميركيين والاتّفاق على الخطوات اللاحقة في دولة مفصلية في الشرق الاوسط مثل سوريا؟

دور تركيا أكبر

في الميزان الاستراتيجي الدولي، موقع تركيا الجيوسياسي وحجمها السياسي والاقتصادي وأهمّيّتها في العلاقات الدولية، ونفوذها في أوساط العرق التركي الممتدّ من بلغاريا إلى قلب الصين في تركستان الشرقية، أكبر بكثير من حجم الجاليات والشعوب الكردية مجتمعة. بالتفضيل الأميركي بين تركيا والأكراد، تربح تركيا بلا منازع، ويظلّ الأكراد معلّقين بشعرة مع الأميركي.

في المعادلة السوريّة الجديدة، على “قسد” أن تبحث عن دور وعن مكان. حكّام دمشق الجدد في أمسّ الحاجة إلى الموارد الغنيّة النفطية والزراعية والمائية لسدّ جوع يتفاقم في بلادهم، وفي أمسّ الحاجة أيضاً إلى الظهور كموحّدين للبلاد ومحافظين على سيادتها، مع تنامي النزعات  الانفصالية في السويداء وجبال العلويين، والتوسّع الإسرائيلي خلف الجولان المحتلّ.

كابد الأكراد نضالاً شاقّاً من أجل أن يديروا شؤونهم بأنفسهم من دون وصاية من أحد، لكنّهم لم يحصدوا سوى السراب

لن تتهاون تركيا مع نزعة انفصالية كردية في سوريا تنتشر كالعدوى بين الأكراد في جنوب شرقها، وستلجأ إلى كلّ الأسلحة والوسائل لإجهاضها في مهدها. وهكذا ليس على أكراد “روجافا” سوى القتال أو الاستسلام.

خيارات محدودة وصعبة

خياراتهم مُرّة وصعبة في حال وجود “قبّة باط” أميركية محتملة عنهم. هذا يجعلهم بين فكّي كمّاشة الحكم السوري الجديد والأتراك. أبرز تلك الخيارات:

1- إعادة النفوذ الإيراني من شبّاكهم بعدما خرج من بوّابات دمشق، لمواصلة القتال والدفاع عن حكمهم الذاتي. وهذا أيضاً خيار غير مضمون ومكلف.

2- الصمود وجعل مناطقهم نقطة جذب للأقلّيات الأخرى والجماعات الرافضة للحكم الجديد في دمشق. لكنّ علاقاتهم غير المستقرّة مع العشائر العربية والأقلّيات المسيحية شرق النهر أثناء فترة إدارتهم الحالية، لا تجعلهم نموذجاً ترغب الأقلّيات الرافضة للحكم الجديد أن تلتحق به وتشدّ أزره.

3- التسليم بنفوذ دمشق والعودة إلى تحت سقف الدولة السورية، ضمن سلسلة شروط ومطالب مسبقة تضمن لهم نوعاً من أنواع الحكم الذاتي. لكنّ ذلك إن حصل سيكون محدوداً مع إصرار الإدارة السياسية الجديدة في دمشق على مركزية الدولة السورية. وفي أقصى الأحوال، قد تقبل بحكم ذاتي على غرار ذاك الذي منحه الرئيس الراحل صدّام حسين لأكراد العراق في سبعينيات القرن الماضي.

إقرأ أيضاً: الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

في المقابل، فإنّ القضاء على “قسد” أو تقويضها ليس من مصلحة أطياف واسعة من المجتمع السوري الكبير، أكراداً وغير أكراد، ذلك أنّ هذه الحركة السياسية على علّاتها تمثّل نخبة علمانية ممتدّة في الأرجاء السورية تؤمن بالمساواة بين الجنسين والتنوّع وترفض التطرّف الديني والأفغنة. ومن شأن وجودها الفاعل في الحياة السياسية السورية الحفاظ على الحدّ الأدنى من الديمقراطية، والتوازن بين المكوّنات الوطنية في الدستور الجديد، وعدم طغيان اللون الواحد والتزمّت.

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

سنة أولى  مع مشعل الأحمد: انضباط مالي غير مسبوق..

في الحِقَب الأساسية من تاريخهم الحديث، يتذكّر الكويتيون بشكل أساسي عام 1962 عند وضع الدستور، وعام 1991 الذي شهد التحرير بعد الغزو العراقي، وعام 2006…