تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة. أملاً في التأثير عليها لتجنّب أيّ انعكاس سلبي على مصالح هذه الدول. أمّا تواجه الرئيس الأميركي السابق والمُنتخَب حالياً دونالد ترامب في ما يتعلّق بسوريا، فهو واضح وبرزت ملامحه في ولايته الأولى وتظهّرت أكثر بعد التطوّرات الأخيرة في سوريا.
ترامب لم يعبّر فقط عن رؤيته للسياسة الخارجية الأميركية التي تفضّل عدم إرسال قوات أميركية إلى مناطق النزاع، وتحديداً في سوريا. إنّما ذهب إلى أبعد من ذلك في اعترافه بالنفوذ التركي داخل سوريا وأعطاه بعداً تاريخيّاً. في إشارة إلى أنّ مبدأ احترام الحدود الدولية وعدم التدخّل في شؤون الدول الداخلية التي نظّمت العلاقات الدولية لا يعني الكثير لترامب. وسيشكّل عنواناً جديداً للبراغماتية الأميركية ليس فقط في سوريا، إنّما في الصراع الروسي الأوكراني. حيث ألمح أكثر من مرّة إلى أنّ الحلّ لهذا الصراع سيؤدّي إلى تنازل كييف عن مطالبتها باستعادة القرم وأراض احتلّتها موسكو. ويوحي الاعتراف الأميركي بضمّ إسرائيل الجولان في ولايته الأولى بأنّ إدارته ليس لديها أيّ التزام بقرارات مجلس الأمن أو المعاهدات الدولية التي أرست النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
ما يساعد ترامب على تبنّي هيمنة تركيا على سوريا هو عدم وجود مصالح أميركية تاريخيّة في سوري
“أرادوها منذ آلاف السنين”
في إشارة إلى الماضي العثماني لتركيا، الذي شمل السيطرة على سوريا الحديثة، قال ترامب: “لقد أرادوها منذ آلاف السنين (وهنا أراد أن يقول مئات السنين) وحصلوا عليها، وهؤلاء الأشخاص الذين دخلوا يتمّ التحكّم بهم من قبل تركيا، وهذا لا بأس به”.
أضاف ترامب في مؤتمر صحافي عقده في مقرّ إقامته في بالم بيتش بولاية فلوريدا: “قامت تركيا من خلال دعمها للمعارضة باستيلاء غير ودّي دون خسائر كبيرة في الأرواح”. وأضاف: “في الوقت الحالي، سوريا بها الكثير من الأمور غير المحدّدة… أعتقد أنّ تركيا ستمسك بمفتاح سوريا”.
ما يساعد ترامب على تبنّي هيمنة تركيا على سوريا هو عدم وجود مصالح أميركية تاريخيّة في سوريا. إنّما اهتمام واشنطن بسوريا كان نتيجة ملفّات الإرهاب وأمن إسرائيل. أمّا في ما يخصّ إسرائيل فربّما يعتقد ترامب أنّ إسرائيل أصبحت قويّة لدرجة أنّها تستطيع أن تنتهج سياساتها الخاصّة بها في ما يتعلّق بسوريا والتحدّيات المترتّبة على التغيير الجديد.
حتى الآن غير معروف ماذا يريد ترامب في المقابل من تركيا وهو الذي يسعى إلى الحصول على مكتسبات دون تقديم خدمات مجّانية
لكن حتى الآن غير معروف ماذا يريد ترامب في المقابل من تركيا وهو الذي يسعى إلى الحصول على مكتسبات دون تقديم خدمات مجّانية. ترامب المعجب بإردوغان الرئيس القويّ الذي بنى جيشاً قويّاً يحاول استمالة تركيا في شكل أوضح في الصراع الأميركي الأكبر مع الصين وإيران.
لقد عبّر الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن موقف واضح بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لسوريا، قائلاً: “يجب ألّا يكون للولايات المتحدة أيّ علاقة بهذا الأمر. هذه ليست معركتنا. دعوا الأمور تأخذ مجراها. لا تتدخّلوا”.
يتماشى تردّد ترامب في التدخّل في سوريا مع مبدأ “أميركا أوّلاً” الذي يركّز على تقليل الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج. ويشير هذا الموقف إلى احتمال استمرار أو حتى تسريع انسحاب الولايات المتحدة العسكري من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا والعراق. ويرى الخبراء أنّ ترامب وفريقه يعارضون الالتزامات العسكرية المفتوحة، وهو ما يعني أنّ أيّ وجود مستمرّ سيعتمد على مهمّة محدّدة وغاية استراتيجية.
بعد تغيير السلطة الذي خلّفه رحيل الأسد، عزّزت تركيا، العضو في الناتو، من نفوذها في المنطقة. وقد وصف ترامب التطوّرات الأخيرة بأنّها “استيلاء غير ودّي” من قبل تركيا، مشيراً إلى تحرّكات أنقرة الاستراتيجية دون أن يلمّح إلى تدخّل أميركي.
يتماشى تردّد ترامب في التدخّل في سوريا مع مبدأ “أميركا أوّلاً” الذي يركّز على تقليل الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج
دول الخليج تتحمّل مسؤوليات أمنية إضافة؟
تؤثّر تحرّكات تركيا، وخاصة ضدّ القوات الكردية في شمال سوريا، على استقرار المنطقة. وقد دعمت الولايات المتحدة سابقاً الجماعات الكردية في محاربة تنظيم داعش، لكنّ عمليّات تركيا قد تعقّد هذه التحالفات. ومع ذلك، يبدو أنّ إدارة ترامب مستعدّة لتبنّي نهج عدم التدخّل، وهو ما يسمح للقوى الإقليمية بفرض سيطرتها.
في ما يتعلّق بالوجود الأميركي في الخليج، قد تؤدّي ميول ترامب نحو فكّ الارتباط مع النزاعات في الشرق الأوسط إلى إعادة تقويم انتشار القوات الأميركية في المنطقة. وبينما استضافت دول مجلس التعاون الخليجي القوات الأميركية تاريخياً كوسيلة لمواجهة التهديدات الإقليمية، فإنّ سياسات ترامب قد تدفع هذه الدول لتحمّل المزيد من مسؤوليّاتها الأمنيّة.
من الطبيعي أن تلجأ الإدارة الجديدة إلى تقليل الحضور العسكري في مناطق الحرب مع الحفاظ على وجود قويّ في دول مجلس التعاون الخليجي لحماية المصالح الاستراتيجية. ولطالما تباهى ترامب بالقدرات العسكرية التي تستطيع أن تضرب أعداء واشنطن بدقّة من أماكن بعيدة جداً دون ضرورة لوجود عسكري على الأرض. ولن يتوانى عن القيام بذلك كما حصل حين أمر بضرب سوريا واغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في ولايته الأولى.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وتركيا وروسيا تستعدّ لـ”عاصفة ترامب”؟
أدّت الإطاحة الأخيرة بالرئيس السوري بشار الأسد على يد قوات المعارضة إلى تعقيدات كبيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
سياسة الرئيس المنتخب ترامب تجاه سوريا، التي تتميّز بعدم التدخّل وقبول الهيمنة التركية الإقليمية، تعكس استراتيجية أوسع تهدف إلى تقليل التدخّل العسكري الأميركي في صراعات الشرق الأوسط. ومن المرجّح أن يؤثّر هذا النهج على الوجود الأميركي في الخليج. وهو ما قد يؤدّي إلى إعادة توازن الالتزامات العسكرية وتشجيع الحلفاء الإقليميين على تولّي مسؤولية أكبر عن أمنهم. إلا إذا كان هناك مردود ماليّ كبير للولايات المتحدة في عهد الرئيس الذي يتقن “فنّ الصفقات”.
لمتابعة الكاتب على X: