لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية التي تتباهى بتجذّر نفوذ دولتهم في المنطقة، ليشمل أربع عواصم عربية، بل إنّ قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني قد وصل به الأمر حدّ وصف التمدّد الإيراني بالفتح بقوله إنّ “إيران مستمرّة بفتح بلدان المنطقة”، معدّداً أفغانستان إلى جانب العراق وسوريا وفلسطين. كما أنّ حيدر مصلحي، وهو أحد المسؤولين الأمنيّين السابقين، قد أكّد مذهبيّة المشروع الإيراني بقوله إنّ “الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود، وهي لكلّ الشيعة”… لكن كلّ شيء يتغيّر في المنطقة. وهذا سيفرض تغييراً داخل المشروع الإيراني نفسه.
يستند أساس المشروع الإيراني إلى فكرة تصدير الثورة، التي تخدم أكثر من هدف، أهمّها نقل مشكلات الداخل الإيراني إلى الخارج. وهو ما يضمن له الثبات العقائدي. من خلال توجيه مقدّرات الشعب الإيراني صوب أهدافٍ خارجيةٍ كبرى. وهذا يعفيه من مواجهة أسئلة الداخل واعتراضاته. ويعفيه من مواجهة أسئلة هموم الشعب والتنمية والازدهار. ويسهّل تخوين وقمع المعارضين باعتبارهم “مُتَلَهّين بأمورٍ صغيرةٍ أمام المشروع الكبير” لاستعادة أمجاد الماضي.
التوسّع أو التمدّد خارج حدود الدولة هو فعل يقع في دائرة الجيوبوليتيك، ومن خلال هذا المصطلح يمكن فهم وتحليل السياسة الإيرانية في المنطقة التي أفادت من مجموعة من العوامل والمتغيّرات، جميعها لعب لمصلحة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وساعد في تحقيق ذلك المشروع الذي يتجاوز حدود الدول ويفرض نفسه ناطقاً باسمها ومعبّراً عن مصالحها رغماً عن سيادتها.
لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة
بوش الابن يفتح طريق إيران
قدّمت إدارة الرئيس جورج بوش الابن للإيرانيين فرصة تحقيق مشروعهم بعد غزو أفغانستان والعراق. حيث قضت على ألدّ أعداء إيران الملاصقين لحدودها وقوّضت نظامهما:
– حركة طالبان الجار المزعج والمخيف الذي يحدّها من الشرق.
– والعراق الجار العربي الذي كان يعتبر البوّابة الشرقية التي منعت إيران من تصدير ثورتها لسنوات، بعدما ألحق بها هزيمة صريحة في حرب الخليج الأولى وجرّعها كأس السمّ بعدما قبلت مرغمةً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الذي قضى بوقف الحرب بين الجانبين التي دامت ثماني سنوات.
بيد أنّ إسقاط هذين الطرفين قد عبّد الطريق السريع للتمدّد الإيراني في المشرق العربي، فبدأ التغلغل من العراق، ثمّ تلاقت المصالح الدولية، لا سيما الأميركية منها في زمن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، مع المصالح الإيرانية في بدايات “أحداث الربيع العربي”. الأمر الذي سرّع من فرض النفوذ الإيراني داخل سوريا ولبنان والعراق واليمن وبعض فلسطين.
كان الرئيس أوباما سعى إلى كسب رضى الإيرانيين بهدف تحقيق حلمه النرجسي بتوقيع الاتّفاق النووي معهم. فامتنع عن معاقبة نظام الأسد بعد التقارير التي تحدّثت عن استخدامه الكيمياوي ضدّ السكّان في الغوطة الشرقية، متساهلاً في الوقت عينه مع الطموح الإيراني في المنطقة العربية الذي أصبح يفوق حجم ودور وإمكانات إيران نفسها.
المتغيّرات التي بُني عليها المشروع
أكثر السيناريوهات تفاؤلاً ما كانت لتقبل فكرة تخلخل المشروع الإيراني في المنطقة بهذه السرعة التي فاقت كلّ تصوّر. وهو المشروع الذي عمل صانع القرار في إيران على تحقيقه على مدى سنوات بتكلفة عالية من الأموال والميليشيات التي عملت في خدمة ذلك المخطّط الأيديولوجي، والذي كان يسير بخلاف حقائق التاريخ والجغرافية الثابتة. فقد بُنيت ركائزه على مجموعة متغيّرات في السياسات الدولية والإقليمية من المستحيل أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. فقد حاكت إيران سجّادة مشروعها بخيوط ليست من عنديّاتها، وبفقدانها أصيب مشروعها بنكسة كبيرة وخسائر يصعب تعويضها.
أكثر السيناريوهات تفاؤلاً ما كانت لتقبل فكرة تخلخل المشروع الإيراني في المنطقة بهذه السرعة التي فاقت كلّ تصوّر
لقد أثبت الدور الإيراني كالمعتاد أنّه عنصر تهديم للدول، وأنّه كناية عن مجموعة من الوكلاء يعملون لدى راعيهم الإقليمي. وهو دور غارقٌ في الماضي من خلال بثّ شعارات عفّى عليها الزمن من قبيل “حماية المقامات”، “ولن تسبى مرّتين”. في حين أنّ العالم، وخصوصاً بعد التحوّلات السريعة على المستوى الإقليمي والدولي، منها انتخاب دونالد ترامب مجدّداً، بدأ بالرقص على إيقاع انتخابه، حتى قبل تسلّمه المنصب رسمياً. فهو يريد أن يبدأ عهده في ظلّ استقرار سياسي وعسكري في المنطقة. علاوة على أنّ عين أوروبا على التطوّرات في أوكرانيا. لذا برز اقتناع دولي بأنّ فكرة “تحالف الأقليّات” قد سقطت، وأنّ الأكثرية السنّية في سوريا هي الثابت الأقوى والقادر على الحكم وفرض الاستقرار مدعوماً أيضاً من الثابت التركي بحدود جغرافيّة تصل إلى 909 كلم.
تجدر الإشارة إلى أنّ تركيا لا تتّبع سياسة أيديولوجية متصلّبة، بل هي بدورها تهتمّ بالازدهار وتحسين اقتصادها لأنّ شعبها ينتخب ويحاسب. وكلّ هدوء واستقرار يخدم النظام الحاكم فيها. وكلّ ما يشغل بال الأتراك هو الملفّ الكردي، وهم يدركون جيّداً أنّ أيّ سياسة تركية داخل سوريا قد تتعارض مع ثوابت الأمن القومي العربي سترتدّ عليهم سلباً من أكثر من باب، خصوصاً الباب الكرديّ الذي قد يتمّ احتضانه ردّاً على احتمال الحسابات الخاطئة من جانبهم.
قوى الاستقرار ستجد من يلاقيها
كلّ قوّة، صغيرة كانت أم كبيرة، ستعمل على تكريس الاستقرار بدءاً من سوريا، وستجد من يلاقيها في منتصف الطريق. بينما تلك التي تعمل على نشر الفوضى لا مستقبل لها في المنطقة في ظلّ الإدارة الأميركية الجديدة. ومن اللافت في هذا الصدد مصادقة البرلمان السويسري على قرار يقضي بحظر “الحزب”، بعدما اعتبر مؤيّدو هذا القرار أنّ “الحزب” يمثّل تهديداً للأمن والسلم العالميَّين.
حاكت إيران سجّادة مشروعها بخيوط ليست من عنديّاتها، وبفقدانها أصيب مشروعها بنكسة كبيرة وخسائر يصعب تعويضها
في الخلاصة، ثمّة وقائع سياسية وعسكرية سرّعت تهاوي المشروع الإيراني، بدءاً من النتائج العسكرية لحرب “طوفان الأقصى” في غزة، حيث تعنّت رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ملفّ الأسرى، وهو ما عطّل تلك الورقة المهمّة ونزعها من يد المحور الإيراني، ثمّ “حرب المساندة” في لبنان.
هنا لا بدّ من التذكير بأنّه في اليوم التالي لعملية الطوفان، صرّح وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبداللهيان بأنّ بلاده هي التي سوف تدير عملية المفاوضات المتعلّقة بملفّ الأسرى لدى “حماس”. ثمّ جاء الحدث الكبير الذي تمثّل بهجوم المعارضة السريع صوب المدن السورية المدعوم تركيّاً في ظلّ رضى غربي ــ روسيّ ستبرز معالمه في التسوية المقبلة لوضع حدّ للحرب في أوكرانيا مع دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض.
سرّعت كلّ هذه المعطيات في سقوط نظام بشار الأسد الذي كان يمثّل واسطة عقد المشروع الإيراني، ففرط بذلك عقد “الهلال” المعروف.
والنتيجة لا بدّ أن تنعكس على قلب النظام الإيران، وعاصمة المشروع التوسّعي في المنطقة…
* دكتور في العلوم السياسية وباحث سياسي.