منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب المساندة بالموقف الديني والأخلاقي تجاه الفلسطينيين، وطوراً وضع هذه الحرب في سياق “تحرير فلسطين” و”الدفاع عن لبنان”. النتائج التي أسفرت عنها الحرب أفقدت “الحزب” كلّ المبرّرات. ومنذ موافقته على اتفاقية وقف الأعمال العدائية وعلى تطبيق القرار الأممي 1701، يحاول الشيخ نعيم قاسم في خطاباته تأكيد “نصر” ضائع بين التبريرات التي تبدو غير مقنعة حتى لبيئة “الحزب” المصدومة بحصيلة ما حدث، والكلفة العالية التي دفعتها الطائفة الشيعية.
بعد إسقاط نظام بشار الأسد وسيطرة المعارضة على الحكم في سوريا، وبعد استشعار الإيرانيين “خطورة” غسل أيديهم من سوريا، والاعتراف بحجم الخسارة الاستراتيجية التي تلقّتها طهران “ومحور المقاومة”، ظهر الشيخ نعيم في خطاب تعدّدت تفسيراته المتناقضة في لبنان. فكيف قرأ باحثون إسرائيليون هذا الخطاب؟ وما هي استنتاجاتهم؟ وماذا ينتظرون من “الحزب”؟ وكيف ينظرون إلى المشهد الجديد في سوريا؟
قراءة عدد من الباحثين والضبّاط الإسرائيليين للخطاب الأخير للشيخ نعيم قاسم جاءت في إطار الضربة الموجعة التي تلقّاها الحزب في الحرب الأخيرة والتوقيع على اتّفاق يخرجه من جنوب الليطاني تطبيقاً للقرار 1701، وانكفائه من سوريا مع الميليشيات الإيرانية الأخرى، والتي شكّلت ضربة كبيرة للمشروع الجيوسياسي الإيراني في شرق المتوسّط الذي يمرّ بتحدّيات غير مسبوقة.
منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم
اختفاء الكلام عن الحرب المقبلة مع “الحزب”
القراءة الآنيّة للخطاب تدلّ على رؤية جديدة ظهرت في إسرائيل بعد ولادة المشهد الجديد في سوريا. إذ اختفى كلّياً الكلام عن الحرب المقبلة مع الحزب. لأنّ الأولويّات باتت على المسرح السوري. وهي تطرح أسئلة من النوع الآتي:
– هل نشهد فعلاً ولادة محور جديد في سوريا؟
– وهل تنتظر إسرائيل من إيران أن تحضّر الحزب لدور جديد في مواجهة “المحور الناشىء”؟
– كيف تُغَيّر تل أبيب استراتيجياتها تجاه تصفية الحسابات المرتقبة مع الميليشيات العراقية المحسوبة على طهران؟
– وماذا عن لبنان؟
– هل يلتقط الفرصة التي تشهدها سوريا، فيتحرّر ممّا بقي من الهيمنة الإيرانية وينهض؟
الأهمّ في كلامه أنّ نعيم قاسم لم يظهر كزعيم يرسم استراتيجية، بل كمن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه
في هذا الإطار، جاءت قراءة البروفسور أميتسا برعام في صحيفة معاريف بعنوان “خطاب نعيم قاسم: أدنى نقطة وصل إليها “الحزب” منذ تأسيسه”، لتؤكّد استمرارية ربط الإسرائيليين المشهد اللبناني بالبانوراما العامّة في المنطقة، والمستقبل الذي ينتظر سوريا ومستقبل الصراع فيها.
كما لو أنّ الإسرائيليين يفكّرون في دورٍ ما للحزب ضمن صراع يتوقّعونه مع “المحور السنّي” الذي يشقّ طريقه على أنقاض المشروع الشيعي.
فما هي أهمّ استنتاجات برعام لخطاب الشيخ نعيم الأخير؟
اعتراف كامل بالهزيمة
1- الأهمّ في كلامه أنّ نعيم قاسم لم يظهر كزعيم يرسم استراتيجية، بل كمن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
2- اعترف بخسارة طرق الإمداد عبر سوريا.
3- كشف أمام محازبيه والعالم عن مستوى الضرر الذي لحق ببنية الحزب العسكرية.
4- المفاجأة كانت في التزامه بالقرار 1701 الذي يفرض عليه الانسحاب إلى ما وراء الليطاني.
5- حاول الخطاب الدعوة إلى “تضامن إسلامي مشترك”، رغم الفجوات المذهبية بين سنّة دمشق وشيعة الحزب.
6- الخطاب تشجيعيّ ظاهرياً لبيئته… لكنّه في الحقيقة اعتراف كامل بالهزيمة الجزئية.
7- أظهر أنّ الحزب في أزمة عميقة، وأنّه سيعمل على تغيير تكتيك عمله.
8- يدرك نعيم قاسم أنّه إذا لم يلتزم بالاتّفاق فإنّ إسرائيل ستجدّد الحرب. وفي ظلّ الوضع الحالي الضعيف للحزب، فإنّ هذا يمكن أن يؤدّي إلى نهايته.
9- محاولة بائسة للبقاء ورسالة دبلوماسية للعالم، وخصوصاً إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
10- حاول نعيم قاسم التوجّه نحو دمشق الجديدة تبدو كمن يحاول التعلّق بحبال في الهواء. فالسنّة في دمشق لا يعتبرون الحزب شريكاً لهم، وفي حالته الضعيفة من الصعب أن ينضمّوا إلي نضاله الشيعي.
تتمثّل الرسالة الضمنية لـ”الحزب” في التالي: إذا تجنّبتَ مواجهة القوات الإسرائيلية في العملية المحدودة، فسيتمّ تجنُّب توسيعها
القضاء على “الحزب” ليس على جدول أعمال تل أبيب
في معرض استمرار قاسم بالقول إنّ الحزب منع إسرائيل من القضاء عليه، فإنّ الأمر يحتاج إلى تفَحّص القراءات الإسرائيلية الأخرى لمعرفة الموقف الحقيقي من الحزب ومسألة “القضاء عليه”، إذ لا يبدو أنّ هذه المسألة كانت على طاولة صنّاع في إسرائيل.
هذا ما أكّده عيران أورتال قائد المنطقة الشمالية السابق في مقالته بعنوان “آن الأوان ليعترف نتنياهو. مقامرة الجيش الإسرائيلي في الجنوب”، المنشورة في “معهد بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية”. إذ كتب أنّ الأهداف المتواضعة لعمليّة “سهام الشمال”، وهي “إعادة سكّان الشمال إلى منازلهم من خلال “تطهير” خطّ القرى اللبنانية القريب من الحدود الإسرائيلية والأراضي المفتوحة من البنى التحتية التابعة لوحدة الرضوان التي كان من المفترض أن تستخدمها الوحدة كنقطة انطلاق للهجوم على الجليل”.
أضاف:
- “بدأ الجيش الإسرائيلي هجومه على البنية التحتية، لا على العدوّ.
- الأهداف المحدودة للعملية موجّهة إلى الجمهورَين الإسرائيلي والأميركي، لكن لا يمكن استبعاد احتمال أن تكون موجّهة أيضاً إلى العدوّ.
- تتمثّل الرسالة الضمنية لـ”الحزب” في التالي: إذا تجنّبتَ مواجهة القوات الإسرائيلية في العملية المحدودة، فسيتمّ تجنُّب توسيعها.
- إذا ما كانت هذه الرسالة صحيحة، فمن الواضح أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية تسعى إلى إنهاء الحرب عبر اتفاق دولي… ولا تسعى هذه الاستراتيجية إلى نزع سلاح الجنوب اللبناني بالقوّة، بل التوصّل إلى اتفاق سياسي ما، على الأرجح اتفاق يتقمّص روح القرار 1701، وهو قرار مجلس الأمن الذي أنهى حرب لبنان الثانية”.
تلافي الحرب الشاملة
كما كتب غاي حزوت (كولونيل في الجيش الإسرائيلي وضابط عمليات في فرقة الجليل) في مقالته بعنوان “الشروط المطلوبة لإعادة سكّان الشمال إلى منازلهم. المنظور العسكري”، المنشورة في “معهد دراسات الأمن القومي”، أنّ “إسرائيل استخدمت في السنوات الماضية في مواجهة التهديدات من جانب إيران والحزب استراتيجية “المعركة بين الحروب”. وبرأيه، كانت تهدف هذه الاستراتيجية إلى تقليص قدرات الأعداء مع تلافي الانجرار إلى حرب شاملة، وتعتمد على استخدام القوّة بحذر، مع التزام عدم التصعيد إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
“صحيح أنّ سيطرة الجهاديين المتطرّفين على سورية ألحقت ضرراً كبيراً بـ”محور الشرّ” الإيراني في سورية ولبنان، لكن الآن يولد “محور شرّ” آخر
المحور الإيرانيّ انتهى و”محور آخر يتشكّل”
يظهر فهم كلّ الأبعاد المتعلّقة بالاستراتيجية الإسرائيلية الحقيقة والموقف من الحزب، من خلال ما كتبه إيال زيسر في “يسرائيل هيوم”. وفي إشارته إلى ما أقدمت عليه إسرائيل من تدمير الأصول الاستراتيجية للجيش السوري، كتب:
- “هذا الاندفاع في الطاقة والعمل يتعارض بالكامل، ليس فقط مع حقيقة (أننا) لم نتحرّك مطلقاً ضدّ النظام السوري وجيشه طوال أعوام، بل أيضاً، وبصورة أساسية، أنّنا لم نتحرّك ضدّ “الحزب”، العدوّ الحقيقي الذي واجهناه وما زلنا نواجهه. وقد اكتفينا بتوجيه ضربة جزئية إليه وسارعنا إلى اتفاقات وقف إطلاق النار التي تركت “الحزب” مع كثير من القدرات والقوّة العسكرية التي سيحاول الآن ترميمها”.
كما يمكن أن نفهم المشهد الجيوسياسي الذي تحاول إسرائيل رسمه، من خلال ما كتبه إسحق بريك على موقع القناة العبرية N12 في مقالته بعنوان: “المحور الإيراني انهار، “محور شرّ” آخر جديد وخطِر يتشكّل ضدّ إسرائيل”. ومفاده الآتي:
- “صحيح أنّ سيطرة الجهاديين المتطرّفين على سورية ألحقت ضرراً كبيراً بـ”محور الشرّ” الإيراني في سورية ولبنان، لكن الآن يولد “محور شرّ” آخر، أكثر خطورةً ممّا سبقه، مشكّل من الأتراك والجهاديين المتطرّفين (ممّن تخرّجوا من القاعدة). وبكلمات أُخرى، يمكن أن نشتاق إلى “محور الشر” التابع لإيران وأذرعها”.
إقرأ أيضاً: إسرائيل والشيطان الذي لا تعرفه
- أستاذ العلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية.
لمتابعة الكاتب على X: