“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ للقلق؟ وهل تفلح التطمينات في لجمها؟
عمّت الفرحة شوارع المدن الأردنية ومخيّمات النازحين وارتفعت أعلام الثورة السورية عند مفترقات الطرق وشرفات المنازل فور إعلان دخول قوّات المعارضة السورية العاصمة دمشق وفرار الرئيس المخلوع بشار الأسد. ونالت الأحداث في الجارة الشماليّة للأردن حيّزاً واسعاً من التغطيات في الإعلام الأردني. لكنّ التحليلات والرؤى السياسية لمستقبل سوريا والعلاقة الأردنية السورية كانت شحيحة، ربّما تحاشياً للسقوط في المحظور أو انتظاراً لجلاء الصورة الشاميّة واتّضاح المشهد المعقّد والمثير في الشمال.
“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا
الملك والإخوان… يهنّئون
العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني كان السبّاق بين الحكّام العرب في الإعلان فور سقوط دمشق أنّ “الأردن يقف إلى جانب الأشقّاء السوريين ويحترم إرادتهم وخياراتهم”، مشدّداً على أهمّية العمل لفرض الاستقرار وتجنّب أيّ صراع قد يؤدّي للفوضى”.
أمّا جماعة “الإخوان المسلمين”، التي حلّت بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فكانت أكثر المبتهجين بـ”انتصار إخوانهم” في الثورة السورية وسقوط نظام الأسد. وتقدّمت الجماعة، في بيان لها، “من الشعب السوري بأعظم التحيّة والتهنئة لإنجاز ثورتهم المباركة، بعد سنوات من التضحيات الكبيرة والصبر العظيم”.
كانت جماعة “الإخوان” في الأردن من أوائل مَن دعم ثورة الشعب السوري بعد اندلاعها في عام 2011. وقد تسبّب ذلك الموقف في صداع شديد للحركة نفسها وعلاقتها بالسلطة وبالأحزاب القومية واليسارية، لا سيما بعد انتشار الحركات الإسلامية المتطرّفة في المنطقة والمملكة نفسها.
بالنسبة إلى الأردن، سوريا هي الجغرافيا والعمق والروابط الاجتماعية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية. ومع حدود تمتدّ على مسافة 375 كيلومتراً بين البلدين تتحوّل المملكة إلى خطّ تماسّ مع أيّ ضربة كفّ في الجارة الشمالية، وتفرض أيّ تغيّرات جملة من التحدّيات على عمّان، ولا سيما في ظلّ تسارع الأحداث الجسام والانقلابات في المنطقة وعدم وجود يقين بكيفية مسار الأمور في سوريا. وكانت عمّان دفعت ثمناً باهظاً جرّاء الحرب السورية تمثّل في أزمة لجوء ثقيلة وتهريب المخدّرات والسلاح وفوضى الجماعات المسلّحة على الحدود المشتركة. وفي المقابل انخرط العشرات من الجهاديين في القتال في سوريا.
العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني كان السبّاق بين الحكّام العرب في الإعلان فور سقوط دمشق أنّ الأردن يقف إلى جانب الأشقّاء السوريين
مخاوف السّلاح… وتصدير الثّورة السّوريّة
جرى سقوط نظام الأسد بلا حمّام دم في دمشق، إضافة إلى تطمينات القادة الجدد في سوريا، ولا سيما أبرزهم أحمد الشرع “الجولاني” وتصريحاته الإيجابية التي تعبّر عن انفتاح على كلّ أطياف المجتمع السوري والجيران… كلّ هذا يبعث على الارتياح في الأردن، ويبشّر بمستقبل جيّد. لكنّه لا يحجب المخاوف الأردنية من احتمالات كثيرة ومسارات كثيرة أبرزها:
- الخشية من التفريط بوحدة الأراضي السورية وتفكيك الدولة السورية، ومن حرب داخلية، لا سيما أنّ الثورة هي ثورة مسلّحة تضمّ أطيافاً من التنوّع السياسي والعرقي والطائفي، ويصعب التكهّن بحركتها ومصالحها الداخلية والخارجية، ولو أنّها أظهرت في أيّامها الأولى حرصاً على الوحدة وسلوكاً مطمئناً لكلّ الأطياف والشرائح السورية، وتمكّنت إلى حدّ كبير من ضبط الأمن ومنع انفلات حبل الانتقام والثأر، وبعثت رسائل حسن جوار إلى الجيران. كما أنّ الأردن نجح في التعامل مع جزء كبير من المعارضة السورية على اختلافها في بدايات الثورة السورية، ولم يكن عدائيّاً معها. وفي المقابل لم تكن هي أيضاً عدائيّة معه.
- ثمّة تخوّف من وجود ارتباط بين بعض فصائل الحكم الجديد في دمشق والحركات التمرّديّة في الأردن. وتوجد في المنطقة الجنوبية من سوريا على الحدود الأردنية فصائل مسلّحة ليست على وفاق مع “هيئة تحرير الشام”، ولا تزال احتمالات الفوضى والمواجهة بالسلاح هناك قائمة.
- إلى ذلك توفّر الأوضاع الاقتصادية الصعبة في المملكة حجّة وذرائع للثوّار “المحتملين”، إضافة إلى التسويق بأنّ ثمّة “أقلّية تحكم بالتوارث أغلبيّة” في الأردن، تماماً كما كان الحال في سوريا. لكن طبعاً هناك فارق كبير بين الجيش السوري الذي كان منهكاً بعد حرب امتدّت 14 سنة ويعاني من ظروف معيشية ولوجستية صعبة وسط أجواء من الفساد العارم وتخلّى عنه الحليفان الروسيّ والإيراني بعد غرقهما في مشكلات كبيرة وحسابات أكبر من سوريا، وبين أجهزة الأمن الأردنية المتماسكة والمدعومة من حلفاء غربيين أقوياء لديهم قواعد عسكرية في الأردن وأجهزة استخبارية قويّة. اللهمّ إلا إذا رأت واشنطن وباريس ولندن ومعهم تل أبيب أنّ خططهم لتغيير الشرق الأوسط باتت تقتضي تنفيذ خطط مغايرة والتخلّي عن الحلفاء القدامى وبناء تحالفات جديدة هذا غير مرجّح.
جرى سقوط نظام الأسد بلا حمّام دم في دمشق، إضافة إلى تطمينات القادة الجدد في سوريا، ولا سيما أبرزهم أحمد الشرع “الجولاني” وتصريحاته الإيجابية
النّفوذ التّركيّ.. والأطماع الإسرائيليّة
- تعدّد الجهات الإقليمية والدولية المؤثّرة في الداخل السوري، وتضارب مصالح دول تتصارع على حصّتها من “الكعكة السورية”، الأمر الذي يمكن أن يهدّد الأمن القوميّ الأردني. وبالنسبة إلى عمّان لا يشكّل استبدال النفوذ الإيراني في سوريا بنفوذ تركي بالضرورة ضماناً ولا عامل اطمئنان لها، لا سيما أنّ الرئيس رجب طيب إردوغان لم يظهر نيّاته الحقيقية بعد وطموحاته الإقليمية كلّها. وتالياً فإنّ الأردن يرى أنّ طريق الخلاص الوحيد لسوريا والمحيط هو أن تعود دمشق إلى عمقها العربي على أساس احترام خيارات الشعب نفسه، ونضج مخرجات التسوية السياسية للمرحلة الانتقالية في سوريا، بضمان تمثيل الجميع. وهذا ما ركّزت عليه الدبلوماسية الأردنية في تحرّكاتها الأخيرة، ولا سيما في اجتماع العقبة، وتوافقت عليه مع معظم الدول العربية التي شاركت في الاجتماع، لا سيما مصر والسعودية والإمارات.
- القلق الأردني من حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلي التي لم تفوّت فرصة للتوسّع والتمدّد خارج الكيان وإصرارها على تصفية القضية الفلسطينية وقيام الدولة اليهودية على كلّ التراب الفلسطيني وجواره. وبعد الضربات الكبيرة التي تعرّض لها “الحزب” في لبنان وحركة “حماس” في غزة وانهيار نظام الأسد وتدمير مقدّرات الجيش السوري والتوسّع في المرتفعات السورية الاستراتيجية، ازداد احتمال التفرّغ الإسرائيلي، بلا رقيب أو حسيب، لاستكمال مخطّطات التهجير القسري، سواء في قطاع غزّة أو الضفّة الغربية، وطرح مستقبل الوضع القائم في القدس والضفة الغربية مع استمرار دعوات طرد مزدوجي الجنسية الأردنية الفلسطينية، أو مصادرة المزيد من الأراضي وتوسيع رقع المستوطنات ودفع فلسطينيّي الخليل ورام الله وجنين إلى الرحيل شرقاً. وهكذا يصير الحديث عن نيّات إيرانية لاستبدال سوريا بالأردن ممرّاً إلى فلسطين، حجّة إسرائيلية كاملة الأوصاف لتنفيذ المخطّطات الصهيونية القديمة الجديدة لأن يكون الأردن وطناً بديلاً. ويزيد الطين بلّة السعي الإسرائيلي الواضح إلى قيام سوريا جديدة منزوعة السلاح ومفتّتة إلى دويلات طائفية وإتنية، بعضها سيكون مجاوراً للأردن وعلى حدوده. أمّا إذا كانت صحيحةً النيّة لجعل الأردن ساحة جديدة للمقاومة وخطّ تماسّ بين قوّتين إقليميّتين، فذلك يضع المملكة في أتون نار مدمّرة.
نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصادر سياسية أردنية أنّ عمّان فتحت “قنوات اتّصال مع قيادة سوريا الجديدة بقيادة أحمد الشرع”
ملايين السّوريّين والفلسطينيّين والعراقيّين
لا شكّ أنّ هذه المخاوف تجول في أروقة الحكم الأردني، لا سيما أنّ المملكة تضمّ 11.5 مليون نسمة، 60 في المئة منهم فلسطينيون، مع مليون لاجئ سوري معظمهم من المعارضين السابقين لحكم الأسد المخلوع، إضافة إلى مليون لاجئ عراقي يسبّبون بدورهم صداعاً لأجهزة الحكم في عمّان.
هذا ما دفع بالحكومة الأردنية إلى القيام بتحرّكات في كلّ الاتّجاهات لدرء الأخطار الممكنة، من بينها عودة التواصل مع الإسرائيليين، حيث كشفت مصادر إعلامية إسرائيلية أنّ وفداً أمنيّاً رفيع المستوى برئاسة رئيس “الشاباك” رونين بار، زار عمّان والتقى رئيس جهاز المخابرات وقادة في الجيش الأردني للتشاور والتنسيق حول التطوّرات السورية، وجماعات المعارضة في المملكة.
قال موقع “والا” العبري إنّ الجانبين الإسرائيلي والأردني شرعا في مداولات سرّية من أجل تنسيق موقفيهما حيال الحالة الأمنيّة الجديدة في سوريا. وأشار إلى أهميّة مثل هذا التنسيق بالقول إنّ إسرائيل والأردن يملكان حدوداً مع سوريا ولديهما قلق وهواجس أمنيّة مترتّبة على الثورة في سوريا، لا سيما في ما يتعلّق بمستقبل استقرار المملكة الأردنية وأمنها.
أوضح المعلّق السياسي للإذاعة العبرية الرسمية سليمان مسودة أنّه على الرغم من عدم وجود جماعات مسلّحة في الأردن، بعكس سوريا، إلا أنّ إسرائيل قلقة جداً لأسباب عدّة. لذلك اجتمع الكابينت عدّة مرّات للنظر في احتمال انفجار زلزال سياسي في الأردن أيضاً اقتداءً بالسوريين. وأضاف: “الخوف الإسرائيلي من حدوث مثل هذا السيناريو حقيقي، خاصة أنّ الحدود الشرقية مع الأردن تمتدّ على أكثر من 300 كيلومتر، وأنّ هناك مجموعات أردنية لا تثق بالنظام الأردني وتناصب إسرائيل العداء”.
اكتفى المعلّق الإسرائيلي بالحديث على المخاوف الأردنية من سوريا، ولم يشِر إلى المخاوف الأردنية من إسرائيل، وهي لا شكّ أكبر وأخطر على الأردن.
قال موقع “والا” العبري إنّ الجانبين الإسرائيلي والأردني شرعا في مداولات سرّية من أجل تنسيق موقفيهما حيال الحالة الأمنيّة الجديدة في سوريا
التّواصل مع الجولاني
على خطّ دبلوماسي آخر، نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصادر سياسية أردنية أنّ عمّان فتحت “قنوات اتّصال مع قيادة سوريا الجديدة بقيادة أحمد الشرع”، وأنّ “قنوات الاتصال تعاملت من منطلق حسن النيّات”، غير أنّها تحتاج إلى اختبار صدقية خطاب الجولاني – الشرع، وضمانات تحييد الإسلام السياسي في معادلة الحكم السوري من أجل دولة تقبل الجميع.
أضافت أنّ “معلومات متوافرة حملت انطباعات إيجابية بتجنّب الشرع التبعيّة لأيّ طرف خارج معادلة العمق العربي”. لكن تبقى هذه المسألة بحاجة إلى تعريف وسياق منضبطَيْن بعيداً عن تفاوت وجهات النظر في شأن سوريا الجديدة في ظلّ حكم جديد ما زال له إرث في التشدّد الديني، وقواعده تنتمي إلى تنظيمات متطرّفة، واحتمالات انعكاسه على شكل حكم الإسلام السياسي في بلد بحجم سوريا يتميّز بتنوّعه الثقافي والعرقي والمذهبي.
ما يقلق عمّان هو ذاته ما يقلق صنّاع القرار في بغداد والقاهرة والرياض وأبوظبي ومعظم العواصم العربية. لكنّ الأسباب الحقيقية للقلق لا تزول باللقاءات الفوقيّة بين القادة والدول أو بنسج خطط أو مؤامرات لإحباط تطلّعات شعبية نحو الانعتاق بالفوضى من القيود على أنواعها… بل بالعمل على استعادة الثقة المفقودة بين الحكّام وشعوبهم، وإعادة الاعتبار للحرّية والكرامة والعيش الكريم. والأهمّ إعادة الاعتبار للوطنية الجامعة بعيداً عن الشوفينية والتعصّب، بعدما أدّى التخلّي عنها إلى انفلات جامح ومتغطرس للطموحات التوسّعية الإسرائيلية، وغير الإسرائيلية، التي تنهشنا الواحد تلو الآخر.
إقرأ أيضاً: سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون