حذف المستشار السابق لفريق التفاوض النوويّ في حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، محمد مرندي، تغريدة ضدّ قطر كان كتبها عبر منصّة “إكس”. تقول التغريدة: “إذا تمّ الهجوم على منشآت إيران، سنسوّي منشآت الغاز في قطر بالأرض”. ومرندي هو نجل علي رضا مرندي، وزير الصحّة والتعليم الطبّي السابق ورئيس الفريق الطبّي للمرشد الإيراني علي خامنئي. ولئن حذف التغريدة استجابة لردود فعل داخلية، ومنها لحشمت الله فلاحت بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، الذي ندّد بتيّار “خطير يحرق فرص تخفيف التوتّر ورفع العقوبات عن إيران”، فإنّ تغريدة “ابن الدولة” في جمهوريّة الوليّ الفقيه تكشف الكثير عن نظرة إيران لدول الخليج.
حافظت قطر، على الرغم من أجواء امتعاض خليجي عامّ خلال العقود الأخيرة من السياسة الإيرانية، على علاقات ممتازة مع طهران. حتى إنّ بعض العواصم الخليجية اعتبرت، في مرحلة توتّر معيّنة، تلك العلاقات استفزازاً تمارسه الدوحة ضدّ جيرانها. كما ظهرت علاقة الودّ بين الدوحة وطهران في كيفية مقاربة الإعلام القطري لفصائل “محور المقاومة” واحتضانها وإفراد “الفضاءات” والمساحات لها. ولئن تفرض الجغرافيا ومصالح الطاقة خطاباً قطريّاً مختلفاً عن السائد خليجياً وعربياً، فإنّ تغريدة مرندي لم تشفع لقطر، وهي نموذج للكيفية التي تقارب بها إيران رؤيتها وسياساتها مع كلّ الخليج.
حافظت قطر، على الرغم من أجواء امتعاض خليجي عامّ خلال العقود الأخيرة من السياسة الإيرانية، على علاقات ممتازة مع طهران
لا يثق الخليجيون بالجار الإيراني. أظهرت طهران، منذ السنوات الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، مخالب شرّ تجاه المجموعة الخليجية. ويُسجّل أنّ الخليجيين أدركوا مبكراً ما تبيّته دولة الخميني ونصوصها، فسارعوا إلى التكاتف ورصّ الصفوف بإنشاء “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” عام 1981. واختارت إيران مبكراً “تصدير ثورتها” الموعودة إلى الجار الخليجي، مفسدةً مواسم الحجّ، متدخّلةً في شؤون بلدانه، مطلقةً أبواق “الحزب” من لبنان ضدّه، مخترقةً أمنه بخلايا داخلية وهجمات خارجية ترتكبها الفصائل الموالية.
لماذا التّهديد الآن؟
في السنوات الأخيرة بدا أنّ مرحلة من التوافق قد بدأت. تواصلت عواصم الخليج مع طهران. جرى تبادل زيارات. وساد خطاب مشترك يدعو إلى الحوار والتعاون والتطلّع إلى منظومة اقتصاد وسياسة وأمن إقليميّ تنهي حال النفور والعداء والقطيعة. توّج الأمر بإبرام اتفاق بكين برعاية الصين بين السعودية وإيران في 10 آذار 2023، بعد جولات حوار في بغداد، برعاية الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي، بدأت في كانون الأوّل 2019.
على الرغم ممّا تحقّق، فإنّ الشدائد التي تمرّ بها إيران وصلت إلى حدّ الهلع الذي يُسقط أقنعة من منطق وعقل وخبث. والظاهر أنّ طهران تملك من المعطيات ما لا نملك لكي تعيد الإفراج عن أصل ما تكنّه لدول الخليج إلى درجة تهديد العالم بالانتقام من قطر مقدّمةً للانتقام من منطقة الخليج قاطبة. وما لا نعرفه من تلك الشدائد تفرج عنه وقائع وأسباب وحقائق أدركتها القيادة الإيرانية جيّداً، واستعدّت لها، ليس بما أوتيت من قوّة للهجوم، بل بما امتلكت من مواهب الباطنية والرشاقة والاستدارة والتراجع.
في السنوات الأخيرة بدا أنّ مرحلة من التوافق قد بدأت. تواصلت عواصم الخليج مع طهران. جرى تبادل زيارات. وساد خطاب مشترك يدعو إلى الحوار
إيران تحاول “التّكيّف”: شالوم
أظهرت طهران أعراض إدراكها لأفول شمسها، منذ عهد الرئيس إبراهيم رئيسي. وعلى الرغم من تقديمه شخصيّةً محافظة متشدّدة قريبة من قلب المرشد، اعتمدت حكومته سياسات خارجية مرنة مفاجئة. بعد مقتل الرجل في حادث مروحية ما زال مثيراً للجدل في أيار الماضي، ذهبت إيران بدأب إلى هندسة انتخابات رئاسية في حزيران سمحت من أجلها بترشّح الإصلاحي المعتدل مسعود بزشكيان، بعينه ومن دون منافس إصلاحي آخر، مقابل ترشّح 5 مرشّحين محافظين هم: رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، والأمين العامّ السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي، ووزير الداخلية السابق مصطفى بورمحمدي، ورئيس وقف الشهيد والمحاربين القدامى أمير حسين قاضي زاده هاشمي، ورئيس بلدية طهران علي رضا زاكاني. وهكذا تشتّتت أصوات المحافظين وفاز، كما رسمت تلك الهندسات، الإصلاحي المعتدل.
كان ذلك قراراً من قمّة الدولة في إيران بشخص المرشد علي خامنئي. تقدّم بزشكيان أثناء حملته الانتخابية بخطاب انفتاح على الغرب والولايات المتحدة، مستعيناً بفتاوى مستشاره محمد جواد ظريف وخبراته. على الرغم من الضغوط الهائلة التي تعرّض لها “محور” إيران في المنطقة، وعلى الرغم من تعرّض إيران نفسها لضربات إسرائيلية مباشرة، تكشف التقارير يوماً بعد آخر أنّها كانت مدمّرة بنيوية موجعة، احتفظ بزشكيان بالخطاب نفسه، داعياً إلى علاقات انفتاح مع “الأخوة” في الولايات المتحدة، فيما ذهب ظريف، الذي عُيّن نائباً للرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، إلى التوجّه بخطاب إلى اليهود في العالم، الشهر الماضي، مفتتحاً إيّاه بـ”شالوم” رنّانة، مهنّئاً إيّاهم في رسالةِ فيديو بعيد السنة اليهودية الجديدة.
خسرت إيران أوراقها في قطاع غزّة ولبنان. بدت مترنّحة بعد خسارتها في سوريا، نظاماً ونفوذاً ودرّة تاج إمبراطورية الوليّ الفقيه
خسرت إيران أوراقها في قطاع غزّة ولبنان. بدت مترنّحة بعد خسارتها في سوريا، نظاماً ونفوذاً ودرّة تاج إمبراطورية الوليّ الفقيه. بدت بغداد الحليفة مرتبكة في قراءة الحدث الدمشقي. وساد صمت يشبه الموت جماعة الحوثي في اليمن. في المقابل خرج في العالم من يرى أنّ تلك الأقدار لا بدّ قادمة إلى طهران.
تنظر إيران بعين القلق إلى هذا العالم المتحوّل حولها. وفيما تستيقظ، فوق ذلك، على تهديدات دونالد ترامب، القادم إلى البيت الأبيض الشهر المقبل، بخيار عسكري محتمل، فإنّ طهران الفاقدة لعمقها في الشرق الأوسط، الفاقدة لأوراق قوّة في إطلالتها على الممرّات المائية الدولية، الفاقدة لخطابها الثوري المتهالك، الفاقدة لمرحلة “احتواء” أنعم عليها الغرب بها طوال عقود، لا ترى في بعض مظاهرها اليائسة إلا ارتكاب خطيئة تهديد الخليج من بوّابة قطر. وهي خطيئة حتى لو كانت زلّة في تغريدة ارتكبها “ضالّ شارد”.
إقرأ أيضاً: عندما يكون الانتصار أو الهزيمة وجهة نظر
لمتابعة الكاتب على X: