فتح سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وتحطيم “الحزب”، بدءاً من اغتيال قائده التاريخي حسن نصرالله وصولاً إلى تدمير بنيته العسكرية البشرية والمادّية، نافذة تاريخية أمام لبنان لفكّ الارتباط السياسي بينه وبين سوريا.
شكّل التحالف بين “الحزب” ونظام الأسد منذ عقود حجر الزاوية للمحور الإيراني في المنطقة، والتطوّر الأخير لنظريّة وحدة المسار والمصير التي أسّس لها حافظ الأسد منذ عام 1976. لم يكتفِ هذا المحور بإخضاع لبنان وإغراقه في مستنقعات الصراعات الإقليمية، بل جعل البلد ساحة ومخزناً ومركز تدريب ووكر قتلة، وحقلاً لوظائف أخرى، تصبّ كلّها في لعبة تعزيز النفوذ السوريّ الإيرانيّ.
بهذا المعنى، لا يُعدّ سقوط بشار الأسد مجرّد نهاية حقبة في سوريا، بل هو حدث يعيد صياغة توازن القوى الإقليمية. فسوريا الأسد كانت بوّابة الدعم اللوجستي والعسكري الإيراني لـ”الحزب”، والعمود الفقري للكيان الممتدّ من طهران إلى حارة حريك. وما إقرار الأمين العامّ لـ”الحزب” الجديد الشيخ نعيم قاسم بخسارة سوريا، سوى إقرار جزئي بالهزيمة المتعدّدة الأبعاد التي أصابت عموم المحور، وقلّصت تأثير “الحزب” وإيران على نحو لم يكن يمكن تخيّله قبل أسابيع فقط!
من جهة أخرى، لم يكن حسن نصرالله زعيماً سياسيّاً وحسب، بل رمز أيديولوجيّ وشخصية محوريّة في ما يسمّى مشروع “المقاومة”، الذي اختطف لبنان وحاول تجميده في حالة دائمة من التوتّر الأمنيّ والسياسيّ.
أفضل فرصة للبنان
مقتل نصرالله وسقوط الأسد خلال فترة 72 يوماً، يمثّلان أفضل فرصة توفّرت للبنان منذ عقود طويلة لإعادة صياغة مشروع لبناني مختلف تماماً.
لا يُعدّ سقوط بشار الأسد مجرّد نهاية حقبة في سوريا، بل هو حدث يعيد صياغة توازن القوى الإقليمية
بيد أنّ هذه الفرصة لن تدوم طويلاً إذا اكتفى اللبنانيون بانتظار نتائج ما بعد الأسد ونصرالله، أو إن قبلوا بأن لا تأخذ القوى السياسية في لبنان علماً بما حصل من تطوّرات عملاقة. فما يرشح عن لقاءات بين قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون ومسؤول أمنيّ لميليشيا سابقة، بغية البحث في ترتيبات تطبيق القرار 1701 واستكمال تفكيك بنية “الحزب”، أو ما يتسرّب من أسماء رئاسية من جعبة رئيس مجلس النواب نبيه بري، يشي بأنّ في لبنان من لا يزال أسير زمن مضى، ومعادلات لم تعد قائمة.
إذا كان الإقرار بالوقائع الجديدة واجباً، والتصرّف بموجبها هو المعيار الوحيد اليوم للشجاعة الوطنية، فإنّ الأوجب أن يسارع اللبنانيون إلى مغادرة حالة التواكل والخوف، والعمل السريع لفرض معادلات سياسية جديدة، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية، تثبت الفصل بين المسارين اللبناني والسوري.
أسقط السوريون بشجاعة غير مسبوقة وتضحيات خرافية أحد أعنف الأنظمة في تاريخ الشرق الأوسط، وهذا مكسب لهم وللمنطقة والعالم. لكنّ لبنان لا يحتاج إلى أن يكون رهينة المسار السوري في رحلة “ما بعد الأسد”، التي قد تكون مرحلة انتقالية معقّدة وطويلة، نتيجة تنافس الفصائل المسلّحة المحتمل، أو التدخّلات الإقليمية والدولية. إذا انتظر اللبنانيون اتّضاح الصورة في سوريا قبل التحرّك داخلياً، فإنّهم يخاطرون بأن تصبح بلادهم ساحة خلفيّة لتعقيدات المرحلة الانتقالية السورية، أو ملعباً جديداً للتدخّلات الخارجية.
استثمار الانهيار المزدوج
انتقال الانتباه الإقليمي والدولي إلى سوريا الجديدة، في ظلّ مرحلة انتقالية في الولايات المتحدة تمتدّ حتى تسلّم الرئيس دونالد ترامب الحكم في 20 كانون الثاني 2025، يهدّد فرصة اللبنانيين في أن يُحسنوا استثمار الانهيار المزدوج الذي أصاب محور إيران في كلّ من لبنان وسوريا. وقد تعطي زحمة الأولويّات فرصة لخبثاء المحور لاستيلاد وقائع سياسية رئاسية أو حكومية تحبط اللبنانيين وتعطي فلول الحالة المندحرة فرصة لالتقاط الأنفاس.
أسقط السوريون بشجاعة غير مسبوقة وتضحيات خرافية أحد أعنف الأنظمة في تاريخ الشرق الأوسط
لن تتحقّق إمكانات اللحظة اللبنانية الراهنة بغير أعلى مستوى من الشجاعة السياسية والإرادة الشعبية، وحماية فرصة إعادة بناء لبنان على أساس مشروع وطني يقوم على أنقاض نظام “الحزب” – الأسد – خامنئي.
هذا النظام المتعدّد الرؤوس أوهن اليوم من بيت العنكبوت، بكلّ ما تحمل مفردة الوهن من معانٍ.
إقرأ أيضاً: حلب إذ تختصر الشرق الأوسط
لطالما نُظر إلى لبنان كدولة مخطوفة من قبل “الحزب” والمحور الإيراني، وعلى نحو لم يترك شهيّة حقيقية للدعم الدولي والعربي إلا بحدود دنيا. إنّ فشل اللبنانيين اليوم في إعادة الاعتبار لبلدهم ووضعه مجدّداً على منصّة الاهتمام العربي والدولي، من خلال استعراض الإرادة الحرّة لأبنائه وقواه السياسية السيادية، يهدّد بتبديد كلّ الفرص المتوفّرة وينذر بتعميم اليأس من هذا البلد وهمومه.
لمتابعة الكاتب على X: