بعد 19 عاماً بالتمام والكمال عدت إلى سوريا، عدت إليها حرة متحررة من طاغوتها.
عدت ولم أفقد يوماً الأمل في العودة، عدت إلى طرطوس مدينتي التي ولدت فيها وتربيت، بعد غربة قسرية استمرّت 19 عاماً.
قبيل آخر مرة زرت طرطوس مدينتي، كنت مع أستاذي جبران تويني في مكتبه بمبنى “النهار”، يومها ضحكنا وتواعدنا أن تكون الزيارة المقبلة معا… استشهد جبران. اغتاله نظام الأسد ورفيقيه نقولا فلوطي وأندريه مراد. صدر إعلان دمشق بيروت. أوقفت في مطار بيروت ولم أعد إلى سوريا إلا بعد 19 عاما.
19 عاماً… 6 أعوام سبقت الثورة السورية، حرمت خلالها من هوية وجواز سفر، ولم يخالجني الشك يوماً أنّ لهذا الظلم نهاية وأنّ الأسد سيسقط لا محالة.
كانت الثورة السورية أعظم ما حدث، بكيت في أيامها الأولى كما لم أبكِ في حياتي، أنا التي انتظرت هذه اللحظة لم أستطع حتى أن أشارك في مظاهرة واحدة داخل سوريا، وجميع ما فعلناه في الخارج لا يساوي مظاهرة واحدة نردد خلف الساروت “جنة يا وطنا”.
خسرت أصدقاء كثراً، هُددت كثيرا في لبنان، لوحقت كثيراً، ولا أذكر أني كنت أغادر مطار رفيق الحريري للذهاب إلى اجتماعات للمعارضة التي انتميت لها من أيام المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف، دون أن يتم التضييق علي.. اعتقل والدي وهو المحامي المعروف، وضع بالانفرادية ليقايضوه بأن أسلم نفسي، ولم ينجحوا.
أوقف جدي وأخبرني أنّ صور قيصر ليست سوى جزء بسيط من حقيقة النظام. كنت محظوظة أن أبي وجدي رحمهما الله، رغم كل ما تعرضا له، رغم كل التضييق والملاحقة التي تعرض لها والدي، ورغم كل ما خسره من أصدقاء وغيره، لم يكونا يوما سوى داعمين لمواقفي ولحق السوريين في الخلاص من نظام الأسد.
لقد سقط بشار الأسد، سقط رغم كل شيء، ولكن الشعب السوري أسقط أيضاً المشروع الإيراني في المنطقة لا في سوريا فحسب
اليوم بعد رحيلهما عدت، عدت بالمبادئ نفسها التي لم أبدلها أو أتنازل عنها أو أساوم لحظة واحدة رغم كل الضغط على عائلتي في سوريا، رغم كل الملاحقة في لبنان رغم محاولة اتهامي بالإرهاب مرة والعمالة لإسرائيل مرة، وآخرها مداهمة منزلي والتحريض علي وعلى زوجي وأطفالي، عدت رغم كل شيء وسقط الأسد.
سقط بدماء مئات آلاف السوريين، بآهات عشرات آلاف المعتقلين، بحناجر وجهود ملايين المقهورين والمشردين، بسواعد عشرات آلاف المقاتلين الذين لم يرضوا كل هذه السنين بالضغوط لإعادة تعويم الأسد.
عبرت معبر العريضة مشياً على الأقدام، فقد دمرته إسرائيل، حملنا أولادي وعبرنا بهم ليزوروا بيت جدهم لأول مرة، ولكن جدهم لم يكن بانتظارهم هناك كما كان يحلم.. زرت ضريح “بابا”، زاروا ضريح “جدو”، وأخبرناه أننا عدنا إلى بيته، البيت الذي بناه ليتسع لنا جميعاً.
سقط الأسد وعدنا، سقط الأسد وبقينا نحن السوريين.. طرطوس تشبه تلك المدينة التي تركتها، نجح النظام في تشويهها عمرانيا، هي أطماع النظام وأزلامه، أطماع آل مخلوف وأسماء الأسد وغيرهما، بناء عشوائي، مشاريع شيدت وبعضها هدمت بعد تشييدها بسبب خلافات بين أزلام النظام على تقاسم الحصص، ولكن هذه المرة ورغم كل شيء كانت البسمة على وجوه السوريين.
نقمة على الأسد من أبناء الطائفة العلوية، وسؤال واحد يكررونه، إن كان مستعداً للهرب، فلماذا زجّ بنا في الحرب لمدة 14 عاماً، قتل أبناءنا وخلق هذا الشرخ بين السوريين؟
أصدقاء لم أرهم منذ 19 عاما، وغرباء لا أعرفهم، فرحون يعبّرون عن خلاصهم بعد قهر استمر أكثر من 53 عاماً… لم يشاركوا في الثورة كما فعل السوريون في محافظات أخرى لحساسية المدينة وتنوعها الطائفي الشديد.
عدا عن سعادة الناس والتشوه الكبير الذي أصاب المدينة، يبدو أن هناك إصراراً من أهلها على الحفاظ على تنوعها، كما قال لي أحد الفاعلين اليوم في إدارة شؤونها، هوية المدينة في تنوعها ونحن نريد الحفاظ على هويتها.
نقمة على الأسد من أبناء الطائفة العلوية، وسؤال واحد يكررونه، إن كان مستعداً للهرب، فلماذا زجّ بنا في الحرب لمدة 14 عاماً؟
ما يبث على لسان ما بقي من محور الممانعة عن انتهاك حريات وأسلمة لم أرَ له أي دليل على الأرض… كما خرجت قبل 19 عاماً عدت.. ولم أرَ سوى الابتسامة على وجوه شباب القيادة العسكرية على الحدود أو أمام المراكز العسكرية… في المدينة لا مظاهر مسلحة، عجقة الأعياد، وإن خفيفة ولكنها ملاحظة والحياة طبيعية.
يدرك الجميع حساسية المرحلة، يدركون أن هناك الكثير من المتربصين… لم يمر سوى أسبوع على سقوط الأسد وهروبه… من حقنا جميعا أن نتوجس ونراقب ولكن إن أردنا أن نطلق الأحكام فلتكن بناء على ما نرى لا على ما نسمع.
إقرأ أيضاً: لا تظلموا السّوريّين.. لا تنغّصوا فرحتهم
لقد سقط بشار الأسد، سقط رغم كل شيء، ولكن الشعب السوري أسقط أيضاً المشروع الإيراني في المنطقة لا في سوريا فحسب.
اليوم آن أوان بناء الدولة، سوريا لجميع أبنائها، جميعنا تحت سقف قانون واحد وعلم واحد ودستور واحد، وإن كنا نريد هذه الـ”سوريا” فعلى كل من استطاع إليها سبيلا العودة إليها.