ما الذي تريده تل أبيب من سوريا الجديدة؟ وكيف تنظر إلى مستقبل الدولة التي سُمّيت طوال عقود “قلب العروبة”؟
ما كاد السوريون يحتفلون بلحظة سقوط نظام بشار الأسد وعودة اللاجئين والمنفيّين إلى ديارهم في دمشق وحلب وحمص وحماة، حتى أطلّت إسرائيل برأسها لتنغّص عليهم فرحتهم، بعدما تجاوز جيشها المنطقة العازلة في الجولان وقصفت بصواريخها ما بقي من الآلة العسكرية للجيش السوري.
“الآن أو أبداً”، هكذا قرّر بنيامين نتنياهو الإسراع في تنفيذ مشروعه الصهيوني قبل ثبات المرحلة الانتقالية، وإلّا فإنّ تنفيذه سيصبح بعيداً جدّاً إن لم يصبح مستحيلاً.
إطاحة اتّفاق “فضّ الاشتباك”
في لحظة تقدّم فصائل إدارة العمليات العسكرية للمعارضة السورية نحو دمشق لتحلّ محلّ فلول النظام المنهارة، سارعت إسرائيل إلى إطاحة اتّفاق “فضّ الاشتباك” الموقّع بين سوريا وإسرائيل عام 1974 في شأن الجولان المحتلّ، والسيطرة على موقع جبل الشيخ العسكري السوري والمنطقة العازلة بين الدولتين.
تزامن ذلك مع شنّ طائرات الاحتلال سلسلة غارات على مواقع عسكرية. وسارع نتنياهو إلى نسب الفضل إلى نفسه وجيشه في سقوط بشار الأسد، معتبراً أنّ هذا الأمر جاء “نتيجة مباشرة للضربات التي أنزلناها على إيران و”الحزب”، الداعمين الأساسيَّين لنظام الأسد، وأنّ هذا الأمر ينشئ “فرصاً لإسرائيل”.
ذكرت هيئة البثّ الإسرائيلية أنّ الطائرات استهدفت مركز البحوث العلمية بدمشق “حيث تدار برامج أسلحة كيميائية وصواريخ بالستية”. كما شنّ هجوماً على مقرّات أمنيّة في دمشق. وكانت الطائرات الإسرائيلية قد استهدفت مواقع عسكرية في محافظتَي درعا والسويداء، تزامناً مع توغّل قوّة خاصّة إسرائيلية في محافظة القنيطرة، فيما ذكرت وكالة “رويترز” أنّ غارات جوّية يشتبه بأنّها إسرائيلية استهدفت حيّ المزّة بالعاصمة دمشق، وقاعدة خلخلة الجوّية، في جنوب سوريا، التي أخلاها الجيش.
مصادر تسليح سوريا الجديدة باتت على الأرجح رهن الأتراك أو الدول الصديقة لواشنطن، وهؤلاء لا يخرجون عن الإرادة الأميركية
نقلت الوكالة عن مصدرين أمنيَّين إقليميَّين أنّ ستّ ضربات على الأقلّ أصابت القاعدة الجوّية الرئيسية الواقعة شمال مدينة السويداء، وتضمّ مخزوناً كبيراً من الصواريخ والقذائف التي تركتها القوات السورية وراءها. وقال أحد المصادر إنّ الهجوم يهدف على ما يبدو إلى منع وقوع هذه الأسلحة في أيدي الجماعات المسلّحة. وأكّد موقع “صوت العاصمة” المحلّي أنّ الغارات دمّرت مطار المزّة العسكري في محيط دمشق بشكل كامل، إضافة إلى الدفاعات الجوّية كلّها في محيط دمشق. وذكر “تجمّع أحرار حوران” أنّ الطائرات الإسرائيلية استهدفت مواقع قرب مدينة إنخل وبلدة قيطة في الريف الشمالي لدرعا، مرجّحاً استهداف مستودعات أسلحة.
وصفت قراءات إسرائيلية ما يحصل في سوريا وسيطرة من وصفتهم بـ”تحالف المتمرّدين الإسلاميين” بـ”الحدث التاريخي”، الذي ستكون له تداعيات على الشرق الأوسط، وسيسهم في تغيير قواعد اللعبة بالإقليم، وهو ما تتمنّاه إسرائيل التي لا تستبعد انتقال ما حصل في سوريا إلى بعض الدول العربية.
التّوغّل الخطير
ربّما الأمر الأخطر هو إقدام قوّات وحدة الكوماندوس “شلداغ” على التوغّل لمسافة 14 كيلومتراً داخل الأراضي السورية واحتلال قمّة جبل الشيخ، التي تُعتبر موقعاً استراتيجيّاً يطلّ على هضبة الجولان ولبنان، وكذلك على العاصمة دمشق. ويشكّل هذا الانتهاك خرقاً جسيماً للقرار الدولي 350 الصادر في 31 أيار 1974.
تحت عنوان “الزلزال في سوريا لا يزال مستمرّاً ولا بدّ من التعلّم من أخطاء الماضي”، كتب رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، مايكل ميلشتاين، مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت استعرض فيه هواجس إسرائيل في أعقاب نجاح فصائل المعارضة المسلّحة بسوريا في إطاحة نظام الأسد وتصدّر التيار الإسلامي مشهد الثورة.
ذكّر ميلشتاين بالهجوم المفاجئ الذي شنّته حركة “حماس” على مستوطنات “غلاف غزة” والفشل الاستخباري في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الذي أدّى إلى تداعيات لم يتمّ حلّها أو دراستها بشكل كافٍ من جانب إسرائيل.
سارعت إسرائيل إلى إطاحة اتّفاق “فضّ الاشتباك” الموقّع بين سوريا وإسرائيل عام 1974 في شأن الجولان المحتلّ
هكذا، فإنّ التحرّكات الإسرائيلية الميدانية في غمرة سقوط نظام الأسد وتولّي سلطة جديدة مقاليد الأمور في سوريا، خطوة استباقية ورسالة لتلك القوى بضرورة أخذ مصالح إسرائيل في الاعتبار، وعدم خرق القواعد المتّبعة خلال عقود مع النظام. وتعكس تخوّفاً من طبيعة توجّهات القوى الجديدة في سوريا، لا سيما ذات الطابع الإسلامي، التي لم تفصح بعد عن توجّهاتها حيال قضايا الصراع العربي الإسرائيلي.
من هنا كانت المبادرة الإسرائيلية إلى تطبيق “استراتيجية الأحزمة الآمنة” في الجولان، على غرار ما تفعله في قطاع غزة الذي شطرته إلى شطرين عبر ممرّ نتساريم وتطبيق “خطّة الجنرالات” الهادفة إلى تهجير شمال القطاع وتحويله منطقة عازلة، وما تسعى إلى تطبيقه في جنوب لبنان عبر سياسة الأرض المحروقة في قرى الحافة الحدودية لمنع عودة السكّان إليها وجعلها منطقة عازلة على الرغم من اتّفاق وقف النار.
ضربات استباقيّة
إلى ذلك، فإنّ عمليات القصف الممنهجة والمتواصلة للمواقع والمعدّات العسكرية التي هجرها الجيش السوري، بما فيها من أسلحة ثقيلة وصواريخ أرض – أرض وأسلحة دفاع جوّي ومصانع أسلحة، يعتقد أنّ بعضها مختبرات لأسلحة الدمار الشامل، لا سيما الكيميائي منها، تهدف إلى حرمان القوى السورية الجديدة من الأسلحة النوعية لشلّ قدراتها الهجومية إذا ما فكّر أحد فصائلها يوماً ما في تحدّي إسرائيل أو اعترض مشاريعها التوسّعية.
صار مخزون الأسلحة الكيميائية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد الشغل الشاغل لأميركا وإسرائيل. وقال مسؤول كبير في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لمجلّة “نيوزويك” إنّ الولايات المتحدة تراقب مخزون الأسلحة الكيميائية وتتعامل معها باعتبارها أولويّة “من الدرجة الأولى”. كذلك الأمر لمجلس الأمن الذي ناقش الأسبوع الماضي هذا الملفّ في جلسة خاصّة.
تل أبيب لن توفّر جهداً من أجل دفع سوريا إلى التجزئة والتفتّت، وإن كان ذلك قد يزيد من المخاطر الأمنيّة على حدودها الشمالية لفترة طويلة
إذاً حقّقت إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، هدفها الاستراتيجي بتقطيع “محور المقاومة” و”الهلال الشيعي”، عبر طرد الوجود الإيراني من سوريا، وقطع نهر “المحور” من منبعه في إيران إلى مصبّيه على البحر المتوسّط لـ”الحزب” في جنوب لبنان و”حماس” و”الجهاد” في غزّة الذين تعرّضوا لنكسات بليغة، ثمّ بقطع المجرى الأساسي في سوريا، والمحاولات الحثيثة لتجفيفه في المجرى العراقي. ولهذا، فإنّ تركيز التحالف الثنائي الإسرائيلي الأميركي الآن هو على عدم السماح مجدّداً بإعادة تسليح سوريا وقواها السياسية، أيّاً كان انتماؤها، بالسلاح الثقيل، لتكون هذه الدولة منزوعة السلاح وكي لا تشكّل أيّ خطر على أمن الدولة العبريّة.
نكبة إيران وأحلام روسيا
ما حدث في سوريا لا يشكّل فقط “نكبة” للنفوذ الإقليمي الإيراني ويعيد طهران إلى داخل حدودها الجغرافية مع فائض من المشكلات الداخلية، بل ويجهض الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة، بعدما صار وجودها في طرطوس وحميميم عبئاً عليها ومرفوضاً من أيّ حكم سوري جديد، وهو ما يعني ضمناً سقوط كلّ الاتفاقات الدفاعية التاريخية بين موسكو ودمشق. وتالياً، فإنّ مصادر تسليح سوريا الجديدة باتت على الأرجح رهن الأتراك أو الدول الصديقة لواشنطن، وهؤلاء لا يخرجون عن الإرادة الأميركية في شأن حسّاس يتعلّق بأمن إسرائيل.
عين إسرائيل على سوريا، أكثر من أيّ مكان آخر، ذلك أنّ مصير هضبة الجولان الاستراتيجية والفائقة الأهمّية بالنسبة إليها، يتوقّف إلى حدّ كبير على التسوية النهائية للأزمة هناك وشكل الدولة السورية بعدها: سوريا تحت حكم مركزي، أو سوريا فدرالية، أو دويلات طائفية وعرقية ومناطق فوضى غير مسيطر عليها من أيّة دولة؟
صار مخزون الأسلحة الكيميائية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد الشغل الشاغل لأميركا وإسرائيل
بما أنّ دمشق كانت قد أبدت منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1992 استعدادها للدخول في مفاوضات مع إسرائيل لأجل تسوية الصراع معها، فإنّ احتفاظ الدولة العبرية بالهضبة المحتلّة إلى الأبد سيظلّ محلّ شكّ كبير، إلا إذا تفكّكت الدولة السورية وأصبح من الصعب أو المستحيل تحديد الجهة التي يمكن أن تطالب بهذه المنطقة مستقبلاً.
إقرأ أيضاً: أولويّات تركيا لسوريا الجديدة: العودة للحضن العربي
عليه، فإنّ تل أبيب لن توفّر جهداً من أجل دفع سوريا إلى التجزئة والتفتّت، وإن كان ذلك قد يزيد من المخاطر الأمنيّة على حدودها الشمالية لفترة طويلة، إلّا أنّه سيضمن التشكّك في المشروعية القانونية لمطالبة أيّ من الدويلات السورية المحتملة بالجولان. وتالياً لا يصبح الضمّ أمراً واقعاً بحكم الاحتلال الإسرائيلي وحسب، بل يمكن إعطاؤه شكلاً شرعياً وفق القانون الدولي في الوقت المناسب، ولا وقت أفضل من وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض.