ما كان لسوريا أن تحرّر نفسها من النظام السابق من دون أن تدفع ثمناً غالياً. وقد دفعته حتى “آخر بارة” كما يقولون. ولكن ماذا بعد ذلك؟
تحتلّ سورية موقع القلب في العالم العربي. وقد بدت طوال العقود الأخيرة من حكم الرئيس السابق بشار الأسد وكأنّها نأت بنفسها عن هذا الموقع المميّز. فما سلِمت ولا سلِم العالم العربي. الآن تقف سورية ويقف العالم العربي معها أمام مفترق طرق التشرذم الطائفي والعنصري. فسورية، مثل لبنان، تتألّف من جماعات دينية ومذهبية وعرقية متعدّدة. وتواجه هذه الجماعات، مثل لبنان أيضاً، وضعاً مهتزّاً يفتقر إلى الثقة المطلقة.
ما هو المشروع المرسوم؟
هناك مشروعان في التداول:
المشروع الأوّل: استثماري لهذا التعدّد الذي يواجه حالة من الاضطراب وعدم الثقة، ويقضي (كما وصفه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي المستشرق اليهودي – البريطاني – الأميركي برنارد لويس تحت عنوان: استراتيجية إسرائيل الثمانينيات، والذي تبنّته إسرائيل) بإعادة النظر في خريطة العالم الإسلامي (وليس الشرق الأوسط فقط)، من باكستان حتى المغرب، بحيث يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو عنصرية كيان سياسي خاصّ بها. ويحقّق هذا المشروع هدفين استراتيجيَّين:
1- تقسيم المنطقة إلى دول دينية ومذهبية وعنصرية متقاتلة، وهو ما يوفّر الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.
2- يجعل هذا التقسيم من مكوّناته كيانات خاضعة لمن صنعها لأنّها ستكون مدينة له، أي للولايات المتحدة، بوجودها.
فشلت محاولات تقسيم لبنان عام 1982، عام الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة بيروت، ليكون منطلقاً لهذا المشروع الإقليمي. ولكنّ المحاولة لم تفشل في اليمن أو في السودان، وكذلك في العراق. إنّ تحويل عدم الفشل إلى نجاح يتوقّف على تقرير مصير سورية، خاصة بعد سقوط الأسد الابن. من هنا أهميّة المحافظة على الوحدة الوطنية السورية. وقد أبدى قادة حركة تحرير سورية وعياً لهذه الحقيقة التي يتوقّف عليها مستقبل العالم العربي كلّه. ولبنان في المقدّمة!
فشلت محاولات تقسيم لبنان عام 1982، عام الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة بيروت، ليكون منطلقاً لهذا المشروع الإقليمي
المشروع الثاني: إقامة دولة فلسطينية في الضفّة الغربية وغزة تكون القدس الشرقية عاصمتها، وتكون هذه الدولة العتيدة أساساً لتوسيع التسوية السياسية بين إسرائيل والعالم العربي، وحتى العالم الإسلامي أيضاً.
كان هذا المشروع مطروحاً قبل عملية 7 أكتوبر 2023 التي قامت بها حركة حماس بدعم من إيران في العمق الإسرائيلي. قطعت تلك العملية الطريق أمام مشروع التسوية (أو مشروع محاولة التسوية)، وتخلّى الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني عن طاولة المفاوضات ولجأ كلّ منهما إلى خنادق القتال.
ماذا يحمل ترامب؟
أمّا الآن فإنّ الخروج من الخنادق إلى طاولة المفاوضات يتطلّب تغييراً في المفاهيم. والمفاهيم لا تتغيّر إلّا بتغيّر المعادلات. ولقد تغيّرت المعادلات بالفعل، كما تكشف عن ذلك وقائع الأحداث التي عصفت بكلّ من لبنان وسورية، وهو ما يحاول الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترامب أن يستثمره خلال ولايته الثانية…
فهل ينجح؟ في دورته الرئاسية الأولى قام الرئيس ترامب بأمرين خطيرين في الشرق الأوسط:
1- نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وهي خطوة رمزية تعني أنّ الولايات المتحدة تعترف بالقدس مدينة يهودية وعاصمة لإسرائيل.
2- إعلان اعتراف الولايات المتحدة بالجولان المحتلّ جزءاً من إسرائيل. إضافة إلى ذلك إطلاق ما يعرف بالطريق الإبراهيمي (نسبة إلى سيّدنا إبراهيم عليه السلام)، وهو الطريق الذي فتح الباب العربي (المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي) للاعتراف بإسرائيل.
توسيع الطّريق الإبراهيميّ
يحمل الرئيس ترامب الآن مشروعاً جديداً يقضي بتوسيع الطريق الإبراهيمي ليصبح أوتوستراداً يشمل دولاً عربية (وحتى إسلامية) أخرى. وذلك مقابل إقامة دولة فلسطينية فوق ما بقي من أراضٍ في الضفة الغربية وغزة.
من هنا ترتفع علامة استفهام كبيرة تغطّي فضاء لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله. فهل يكون لبنان جزءاً من مشروع خريطة الشرق الأوسط الممزّق إلى كيانات طائفية وعرقية؟ أم يكون موحّداً وجزءاً من عملية التسوية الشاملة مع إسرائيل؟
هناك متغيّرات قد تضع الشرق الأوسط ولبنان تحديداً أمام واقع جديد
يعني الخيار الأوّل انتهاء لبنان الرسالة وتحوُّل لبنان إلى لبنانات تضيف إلى صورة التمزّق نقطة أو مجموعة من النقاط التي تزيد الصورة بشاعة.
معنى الخيار الثاني الالتزام بقرار التسوية السياسية العربية الموحّدة، بحيث لا يبقى لبنان المسرح الوحيد أو العاشق الوحيد لقتال إسرائيل، ولا حتى العازف الوحيد للحن التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وإيران.
لقد سبق أن استخدم لبنان مراراً آلة عزف للصراعات مع إسرائيل. عزف السوريون على هذه الآلة، ثمّ الفلسطينيون، وأخيراً الإيرانيون مباشرة وبالواسطة. كان العزف منفرداً، وكان عزفاً شاذّاً لم يستعذبه مجتمع الدول العربية الذي آثر عزف لحن التسويات السياسية.
هكذا استفردت إسرائيل لبنان بالانتقام مثنى وثلاث ورباع، وفي كلّ مرّة كان لبنان يقوم من تحت الركام بمساعدات عربية مثل طائر الفينيق، ليسقط من جديد ضحيّة استفراده واستضعافه.
لبنان أمام ثلاثة خيارات
الآن بعد سقوط نظام الأسد في سورية، وبعد ليّ ذراع إيران في لبنان، يجد لبنان نفسه أمام خيارات ثلاث: إمّا اللحاق بالركب العربي، وإمّا الاستمرار في العزف المنفرد مع عازف جديد، وإمّا انتظار “غودو” لعلّ وعسى أن يُحدث الله بعد ذلك أمراً.
هناك متغيّرات قد تضع الشرق الأوسط ولبنان تحديداً أمام واقع جديد.
إقرأ أيضاً: اللّحظة السّوريّة”: ما المطلوب خلال ساعات؟
الرئيس دونالد ترامب ليس جو بايدن، بمعنى أنّه ميّال أكثر إلى استخدام القوّة العسكرية المباشرة في العمل السياسي. ولا يقوم بذلك مجّاناً. إنّه كرجل أعمال سابق يحسن دبلوماسية الابتزاز بالضغط والترهيب. دول حلف شمال الأطلسي تعرف ذلك جيّداً، وتستعدّ للتعامل معه على هذا الأساس. ولم تكن تجربته السابقة مع العالم العربي أقلّ سوءاً، أو خطراً، فهل تستعدّ دول العالم العربي أيضاً للتعامل معه على هذا الأساس؟… الجواب من لبنان.