نكسة “الحزب”: سوريا أكبر من الجنوب اللبناني

مدة القراءة 7 د

إذا كانت نتيجة الحرب مع إسرائيل تنطوي على سجال، فإنّ نكسة “الحزب” في سوريا لا تحتمل النقاش. وأخطر ما في الأمر أنّ التغييرات الكبرى ما زالت في طور التدحرج، وثمّة فصل إسرائيلي جديد، بدأ باجتياح أراضي سوريا وتدمير مقدّراتها العسكرية… ومن غير المستبعد أن يمتدّ إلى لبنان.

 

نكسة “الحزب” في سوريا تساوي سقوط مشروع استمرّ 13 سنة، بكلّ ما بُذل فيه من آلاف القتلى والجرحى وعشرات القادة، ومليارات الدولارات التي أُنفقت على التجهيز والتسليح وشراء الممتلكات ومشاريع التغيير الديمغرافي. قد يبدو مفاجئاً أن تسلّم إيران، ومعها “الحزب”، بهذا اليسر الظاهري، كلّ ما بنته في سوريا، من ضاحية دمشق الجنوبية إلى القلمون فالقصير فحمص فريفَي حماة وحلب، وإلى دير الزور شرقاً. غير أنّ ما جرى هناك لا ينفصل عن حرب الشهرين مع إسرائيل في لبنان، وتوغّل إسرائيل في سوريا واحتلالها قمّة جبل الشيخ، وما سيلي من فصول الأحداث في لبنان.

“الحزب” والسّرديّة الضّائعة

كان تمدّد “الحزب” في سوريا، بوجه من الوجوه، تفريغاً لفائض القوّة الذي بدا أنّ لبنان لم يعد يتّسع له. لكنّه كان، بوجه آخر، دفاعاً عن الوجود في الداخل، ودفاعاً عن سلسلة الامتداد الخارجي الإيراني إلى البحر المتوسّط، من العراق إلى سوريا فلبنان.

سيجد “الحزب” إرباكاً كبيراً في بناء سردية لما جرى. إن قال إنّه انسحب بفعل الضعف الذي غدا عليه بعد الضربات الإسرائيلية، فإنّه يهدم بذلك سرديّة النصر على إسرائيل. فما معنى الصمود في الخيام إذا كان سينسحب في اليوم التالي من جغرافيا تعادل خمسة أضعاف مساحة لبنان؟ وإن نفى الربط بين الزلزالين، فإنّه يسلّم بذلك بفشل مشروع القتال في سوريا، وعدم جدواه من أصله.

حين أُعلن وقف إطلاق النار الهشّ في لبنان، كان الأسد قد فقد الكثير من دوره الوظيفي في سلسلة الإمداد الإيرانية

يستلزم ذلك وضع سقوط نظام آل الأسد في سياقه الجيوسياسي لفهم البيئة التي ستتولّد بعده. سقط بشار لأنّه فشل حيث نجح والده في إقامة توازن على حدّ السكّين في علاقاته بين إيران والعرب والغرب. انجرف الشابّ القليل الخبرة إلى الصالون الإيراني في قصر والده العليل أواخر التسعينيات، ومارس صنوفاً من الرعونة، بلغت ذروتها في الانجراف مع مسؤولين في “الحزب” إلى قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005. فكان أن أُخرِج من لبنان ووقع في عزلة عربية ودولية. وحين أُعطي فرصة أخرى في 2009، بدّدها بالانقلاب على نتائج الانتخابات في العراق ولبنان، والرهان الكامل على العلاقة مع إيران.

حين اندلعت الحرب في غزة و”جبهة الإسناد” في لبنان، كان الأسد تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي جوّعت جيشه وبيئته الداعمة، لكنّه كان قد خطا بالفعل خطوات لإعادة تأهيل نفسه خارجياً. ولذلك لم يُظهر التزاماً بمحور المقاومة.

بل إنّ إيران ارتابت من حجم الضربات التي تلقّتها قياداتها ومواقعها العسكرية في سوريا، وفي ذروتها مقتل قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان وفلسطين العميد محمد رضا زاهدي وسبعة من ضبّاط الحرس الثوري. وزاد التنائي بعد إطلاق الحرب الإسرائيلية في لبنان وبيان النعي البارد الذي أصدره الأسد متأخّراً بعد يومين من اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب”.

توالت بعد ذلك الضربات لمواقع “الحزب” في سوريا، حتى بات واضحاً أنّ نظام الأسد لم يعد يوفّر بيئة مأمونة لخطوط الإمداد اللوجستي على النحو الذي كان في حرب تموز 2006. وأمام هذا الانكشاف والتحدّيات العمليّاتية في الجبهة اللبنانية، أخلى “الحزب” وإيران الكثير من المواقع في سوريا، فيما كانت فصائل المعارضة تحضّر للهجوم.

في أسابيع الحرب في لبنان، كان على الأسد أن يحدّد خياره بشكل حاسم: إمّا الغرب وإمّا “محور المقاومة”

الأسد وتجربة علي عبدالله صالح

في أسابيع الحرب في لبنان، كان على الأسد أن يحدّد خياره بشكل حاسم: إمّا الغرب وإمّا “محور المقاومة”. ويبدو أنّه كان راغباً في الافتكاك من هيمنة إيران على حكمه، لكنّه استمع إلى نصيحة تذكّره بما فعله الحوثيون بالرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، حين أحرق المراكب معهم فقتلوه. ولذلك كان أعجز من أن يعلن خياراً أو يخوض رهاناً.

حين أُعلن وقف إطلاق النار الهشّ في لبنان، كان الأسد قد فقد الكثير من دوره الوظيفي في سلسلة الإمداد الإيرانية، ولم يعد بقاء نظامه ضرورة استراتيجية لإسرائيل والغرب، لأنّه استنفد كلّ فرصه. وعندما بدأ هجوم الفصائل الصاعق على حلب، كان واضحاً أنّ إيران غير مستعدّة لتجديد استثمارها المنهك في إبقاء نظام الأسد على قيد الحياة.

الحزب

تظهّر ذلك من صمت الجنرالات وتحرّك رأس الدبلوماسية الإيرانية، وزير الخارجية عباس عراقتشي، الذي زار دمشق كمحطّة في الطريق إلى أنقرة. والأكيد أنّ ما أسمعه للأسد كان مخيّباً للأخير.

كان واضحاً لإيران أنّ الساحة السورية مكشوفة، وأنّ أيّ تعزيزات من إيران أو “الحزب” ستكون عرضة للقصف الإسرائيلي، خصوصاً في ظلّ الانكفاء الروسيّ عن توفير الغطاء الجوّي.

إخلاء ففتح باب التّواصل

لذلك بدأ إخلاء السكّان الشيعة من منطقة السيّدة زينب إلى لبنان، وجرت محاولة لإخلاء سكّان بلدتَي نبّل والزهراء شمال حلب، لكنّ تقدّم الفصائل كان أسرع. واستدركت إيران الأمر بفتح قنوات للتواصل مع هيئة تحرير الشام عبر تركيا لضمان حماية المراقد والسكّان الشيعة والسفارة الإيرانية. وقد التزمت الهيئة بذلك عموماً. ولو أنّ السفارة اقتُحمت في ساعات الفوضى الأولى، قبل انتشار المقاتلين المنظّمين.

سيجد “الحزب” إرباكاً كبيراً في بناء سردية لما جرى

غير أنّ الساعات الـ24 الأخيرة من عمر النظام تُظهر مدى الحيرة الاستراتيجية التي وقع فيها “الحزب” في الاستجابة للأحداث. فحتى ظهر السبت الماضي، كان القرار بالدفاع عن حمص والقصير و”ضاحية دمشق الجنوبية”. ونشرت “رويترز” خبراً عن نشر ألفَي مقاتل من “الحزب”. وطلب أحد صحافيّي “الحزب” من السوريين عبر منصة “إكس” عدم تصوير أرتال التعزيزات خشية من كشف مواقعها وحجمها.

غير أنّ “الحزب” اكتشف سريعاً انعدام الرغبة بالقتال لدى جيش النظام، فقرّر الانسحاب، وتواصل مع المعارضة عبر الأتراك للقيام بخروجٍ آمن. وكان الفصل الأخير مفجعاً، إذ قصفت إسرائيل الرتل المنسحب من القصير بعد دخوله الأراضي اللبنانية.

الخيارات الصّعبة

أخطر ما في الأمر أنّ كلّ ذلك يجري فيما الحرب مع إسرائيل لم تنتهِ بعد، بل هي بتوصيف إسرائيل، في حالة وقف مؤقّت للأعمال العدائية لستّين يوماً. وهذا يعني أنّ خروج سوريا رسمياً من “محور المقاومة” واحتلال إسرائيل للأراضي السورية المحاذية للجنوب والبقاع الغربي، بما فيها جبل الشيخ، يعني أنّ “الحزب” سيكون تحت ضغط عسكري إضافي لتطبيق الـ1701 تحت النار، ووفق الشروط الأميركية الإسرائيلية.  ومن الممكن أن تختلق إسرائيل ذريعة لاستئناف الحرب في لبنان إذا وجدت أنّ “الحزب” في موقف ضعيف عسكرياً ولوجستياً.

كان تمدّد “الحزب” في سوريا، بوجه من الوجوه، تفريغاً لفائض القوّة الذي بدا أنّ لبنان لم يعد يتّسع له

لذلك يجد “الحزب” نفسه في ما بقي من هدنة الستّين يوماً أمام خيارات صعبة تراوح بين التعامل بواقعية مع تشدّد اللجنة الخماسية لمراقبة وقف إطلاق النار، برئاسة الجنرال الأميركي غاسبر جيفرز، في تطبيق الـ1701 وما هو أكثر منه، أو المغامرة بمواجهة جديدة في ظروف غير مؤاتية.

إقرأ أيضاً: اليوم التّالي لـ”الحزب”: تعايش السّلاح مع الرّقابة الأميركيّة؟

لكلّ ذلك، ليس سقوط نظام آل الأسد شأناً سوريّاً خالصاً، بل هو شأن داخلي لبناني أيضاً، ليس لِما للثلاثين سنة من الوصاية من ثقل فحسب، بل لأنّ “الحزب” ليس “الحزب” من دون سوريا، ولأنّ الهجمة الإسرائيلية على سيادة لبنان وسوريا هي الأكبر منذ اجتياح 1982. ولذلك “الحزب” لن يحتاج هذه المرّة إلى وقوف الأسد وإيران معه، بل إلى اصطفافه مع لبنان واصطفاف لبنان معه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

أيّ لبنان بعد سقوط الأسد؟

ما كان لسوريا أن تحرّر نفسها من النظام السابق من دون أن تدفع ثمناً غالياً. وقد دفعته حتى “آخر بارة” كما يقولون. ولكن ماذا بعد…

اللّحظة الإيرانيّة: وحدة الخسارات..

لم يعش قائد فيلق القدس قاسم سليماني ليرى المجد الذي بناه يتهاوى. هو الذي أعلن قبل سنوات سيطرة إيران على أربع عواصم عربية. ها هي…

نتنياهو لجيشه: سوريا الآن أو أبداً

ما الذي تريده تل أبيب من سوريا الجديدة؟ وكيف تنظر إلى مستقبل الدولة التي سُمّيت طوال عقود “قلب العروبة”؟ ما كاد السوريون يحتفلون بلحظة سقوط…

عزّ الشرق أوّله دمشق..

ساحة الامويين علم الثورة عليها انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني….