فيما بدت عواصم العالم حذرة في مقاربة الحدث السوري الكبير، سحب بنيامين نتنياهو كرسيّاً، جلس إلى طاولة التسوية السورية، فارضاً إسرائيل شريكاً حاضراً في مستقبل ما يقرَّر لسوريا.
أطلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يوم إعلان سقوط النظام السوري الأحد، ليعلن جميلَهُ في هذا الإنجاز. قال إنّ ضربات إسرائيل ضدّ “الحزب” في لبنان ومواقع إيران وميليشياتها التابعة في سوريا، هي التي أتاحت تحقيق الأمر. أرادت إسرائيل أن تكون شريكة، على أمل أن تحصّل من “سوريا الجديدة” أثماناً لاحقة، وتذكّر أنّها رقم صعب يفرض قواعده على دمشق أيّاً كان حاكمها.
قصفت إسرائيل في اليوم نفسه ما قيل إنّها أسلحة نوعيّة في مطار المزّة، زاعمة أنّها لا تريدها أن تقع في يد الفصائل السورية. لاحقاً، قصفت مربّعاً أمنيّاً في قلب العاصمة دمشق، قالت إنّه مجمّع أبحاث استخدمته إيران لتطوير أسلحتها الصاروخية. لم يكن الهدف مجهولاً ولا كشفاً طارئاً يستدعي هذه العجالة. كان بإمكان إسرائيل استهداف ذلك المجمّع المزعوم خلال الأيّام والشهور الأخيرة، وهي التي لم تفوّت فرصة لتدمير أيّ مقدّرات من هذا النوع في كلّ جهات سوريا. لكنّها ارتأت تدميره في ذلك اليوم بالذات وتشويه فرحة السوريين في موعد تاريخي مفصليّ نادر.
المفاجأة الإسرائيليّة
كان نتنياهو قد وعد الإسرائيليين، في أعقاب هجوم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، أن تكون حربه مغيّرة للشرق الأوسط. غير أنّ الحدث السوري جاء من خارج السياقات الإسرائيلية، حتى إنّ مصادر إسرائيل تعترف أنّ أجهزة المخابرات لديها لم ترَ ما هو قادم في سوريا، شأنها في ذلك شأن أجهزة المخابرات الأميركية وغيرها في العالم. ومع ذلك أراد نتنياهو أن يوقّع على ما تحقّق في سوريا بأحرف ونار. أمر جنوده بالسيطرة على المنطقة العازلة مع سوريا، وأعلن انتهاء صلاحيّة اتفاقية “فضّ الاشتباك” في الجولان.
سوريا تحتاج إلى بيئة عربية وإسلامية حاضنة تعيد وصل دمشق مع ما قطعه النظام الساقط من وصل مع بلدان العالم
بنى نتنياهو سرديّة ضرباته داخل سوريا في السنوات الأخيرة على أنّها مكافحة للبنى التحتية الإيرانية. قال إنّها تشكّل أخطاراً على الأمن الإسرائيلي من سوريا، أو من خلال ما يتيحه هذا البلد من خلفيّة وممرّ لدعم البنى العسكرية لـ”الحزب” في لبنان. يستنتج نتنياهو عداء عهد سوريا الجديد لأيّ نفوذ إيراني في السياسة والأمن والعسكر داخل البلد. لكنّه بالمقابل، يخشى تمدّد نفوذ تركيا وتمدّد إطلالتها داخل سوريا ليس بعيداً عن الحدود مع إسرائيل.
بدا أنّ نتنياهو بتوجيه ضربات في يوم سوريا المجيد يستبق نفوذاً لا يراه ودوداً قد تطلّ به تركيا على إسرائيل. ساءت علاقات البلدين كثيراً، وتخشى إسرائيل أن تتمدّد حدود تركيا البعيدة إلى إسرائيل من داخل “سوريا الجديدة”.
يحثّ الحدث الناريّ الإسرائيلي فصائل سوريا التي تغادر مقاعد المعارضة وتقترب من صفوف الحكم، على تسريع الخطى لاحتلال الفضاء الرسمي السوري العامّ. صحيح أنّه لا يمكن لوم الفصائل على تحقيق العجائب بعد الساعات الأولى لإعلان إسقاط النظام، غير أنّ سوريا لا تملك ترف الوقت. فالتحوّل الذي حصل تاريخي جذري بنيوي مفاجئ، لا يقلب حياة سوريا والسوريين فقط، بل يقلب توازنات الشرق الأوسط برمّته. وإذا ما أراد السوريون أوّلاً، والعالم تالياً، احتضان تحوّلات سوريا، يجب أن تكون للبلد أجسام إدارية أو حكومية ووجوه معلومة ولغة سياسية واضحة.
التّحدّيات السّوريّة والجهوزيّة العربيّة
أمام سوريا تحدّيات داهمة. إيران في مقدَّم الدول التي لن تقبل بالهزيمة. استثمرت كثيراً من الدم والمال والسلاح والسياسة والعقيدة والفتن لبناء تمدّدها داخل نسيج البلد الاجتماعي وأجهزة النظام نفسه. كانت لمّحت إلى تدخّل عسكري عبر “المستشارين” والأسلحة الصاروخية. ضغطت على بغداد لتحريك قوات صوب سوريا. حرّكت مقاتلين من العراق ولبنان لإنقاذ “مُلك ضاع” في غفلة أيّام.
العالم مع سوريا موحّدة ومستقرّة، واضحة في خياراتها وسياساتها، تفهم لغة المنطقة ومصالح الدول القريبة والبعيدة
تواصلت مع أنقرة والقاهرة وعمّان وغيرها. هرع وزير خارجيّتها يجتمع مع نظيريه العراقي والسوري للتشاور والتنسيق في بغداد. قفز باتّجاه الدوحة متوسّلاً تسوية داخل “مسار آستانة” مع نظيرَيه التركي والروسي. انضمّ للاجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والعراق وقطر والأردن. انتهى كلّ ذلك إلى نتيجة واحدة: “إيران برّا برّا”.
إيران فقدت نفوذاً. تركيا تربح نفوذاً. روسيا تبدو مرتبكة وتكتفي باستضافة رئيس النظام السابق من غير يقين بشأن مستقبل وجودها في سوريا وقواعدها. الولايات المتحدة تتابع وتبدي اهتماماً في بلد أهملت قضيّته طويلاً. حتى الرئيس جو بايدن اكتشف البلد من جديد واعداً “بالعمل مع الجماعات السورية لتأسيس المرحلة الانتقالية”. وحدها إسرائيل تظهر ناشطة بحيويّة من نار تطمح إلى الإمساك بـ”اللحظة السورية” وجعلها رهن “لحظة إسرائيلية” تاريخية استثنائية امتلكتها منذ حدث “الطوفان”.
العالم يلاقي اللّحظة السّوريّة
بالمقابل تبدو عواصم العالم، وفي مقدَّمها العربية، جاهزة لملاقاة “اللحظة السورية”. أرسلت السعودية، بما تملكه من مكانة عربية وإسلامية دولية، رسالة احتضان واضحة دعماً لكلّ “ما من شأنه تحقيق أمن سوريا واستقرارها بما يصون سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها”. في موقف الرياض إشارة واضحة وجب على “سوريا الجديدة” أن تفكّ رموزها.
بنى نتنياهو سرديّة ضرباته داخل سوريا في السنوات الأخيرة على أنّها مكافحة للبنى التحتية الإيرانية
العالم مع سوريا موحّدة ومستقرّة، واضحة في خياراتها وسياساتها، تفهم لغة المنطقة ومصالح الدول القريبة والبعيدة. سوريا تحتاج إلى بيئة عربية وإسلامية حاضنة تعيد وصل دمشق مع ما قطعه النظام الساقط من وصل مع بلدان العالم. تحتاج أيضاً إلى إظهار عناوين واضحة تحمل أجوبة موائمة لأبجديّات العالم في السياسة والمال والاقتصاد والأمن في العالم.
إقرأ أيضاً: الجولاني الجديد على “CNN”..
وحدهم السوريون باستطاعتهم رسم حاضرهم بأنفسهم. على الساعات المقبلة أن تفرج عن شخوص سوريا الجديدة، وعن قواعد حكم كشف بعضها أحمد الشرع من على منبر CNN الأميركي. على الساعات المقبلة أن تفرج عن زيارات ميدان في الداخل تشدّ عصب وحدة الداخل بين عرب وأكراد. وتنهي أيّ أعراض فتنة يريدها الخاسرون بين الطوائف. على الساعات المقبلة أن تفرج عن مفاجآت في الاتّصال مع عواصم العالم جميعها، ذلك أنّها توّاقة إلى التعرّف على سوريا من دون الأسد.
لمتابعة الكاتب على X: