هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مدة القراءة 9 د

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف والمواطنين. في هذا الجزء، سنناقش تأثير انهيار النظام المصرفي على الاقتصاد الوطني، ونتطرّق إلى الإصلاحات المطلوبة لإعادة بناء هذا القطاع الحيويّ وتحقيق استقرار مستدام.

سنحاول في هذه العُجالة تحديد أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والقطاع المالي:

  1. انعدام الثقة بالقطاع المصرفي أدّى إلى عزوف المستثمرين عن إيداع أموالهم في حسابات مصرفية. وهو ما أسفر عن انخفاض التمويل المتاح للقطاع الخاصّ. فتح هذا الأمر المجال أمام انتشار صيرفة الظلّ (Shadow Banking)، وزاد من المخاوف بشأن قدرة القطاع المصرفي اللبناني على مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

وقد تُرجم هذا القلق بوضع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). ومع تراجع الثقة، لجأ المواطنون بشكل متزايد إلى استخدام الأوراق النقدية (Cash) بدلاً من وسائل الدفع التي يوفّرها القطاع المصرفي. وهو ما أثّر سلباً على الاقتصاد وقلّل من كفايته.

  1. أدّى الانهيار السريع والاضطرابات التي واكبت هذا الانهيار في سعر الصرف الليرة اللبنانية إلى توفير مساحة واسعة للمضاربين، متسبّباً في تفاقم التضخّم وجعل الكثير من اللبنانيين غير قادرين على نيل احتياجاتهم الأساسية اليومية.

يطرح هذا الوضع تساؤلاً مشروعاً عن مسؤولية مصرف لبنان ودوره شبه المفقود في صياغة السياسات النقدية التي تهدف إلى عودة الانتظام إلى القطاع المالي، والاستقرار النقدي.

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية

ما هي مسؤوليّات مصرف لبنان حاليّاً؟

  • استعادة الثقة بالقطاع المصرفي التي تتطلّب إجراءات وإصلاحات جذرية تعيد ثقة المودعين، ومكوّنات المجتمع اللبناني، أفراداً ومؤسّساتٍ ومقيماً وغير مقيم، بالمصارف، بما في ذلك حماية حقوقهم ومنع التلاعب بمدّخراتهم وأموالهم.
  • من الطبيعي أن تكون السيولة المتوافرة في يد المواطنين موجّهة نحو تمويل الاستهلاك، الطبابة، التعليم والاستثمار، والفائض يودَع (أو يُحفظ) في حسابات مصرفية. ولكن مع غياب الثقة، أصبحت هذه السيولة، التي تشكّل شريان الحياة للاقتصاد، تذهب إلى التخزين في المنازل، حارمةً الاقتصاد من عوائدها.
  • عدم وجود تشريع استثنائي يعكس حجم وطبيعة الأزمة التي ضربت القطاع المصرفي، وينظّم التعامل بين المصارف وزبائنها بشكل عادل، أدّى إلى حالة من الفوضى في القطاع المصرفي.

يواجه القطاع المصرفي في لبنان أزمة ثقة غير مسبوقة باتت تهدّد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. إنّ إصلاح هذا القطاع لم يعد خياراً، بل ضرورة ملحّة لضمان استعادة فعّاليّته في خدمة الاقتصاد الوطني وحماية حقوق المودعين. وإذا كان الإصلاح الشامل للقطاع مستحيلاً في الظروف الراهنة، فلا بدّ من بدء مسيرة الانتظام التدريجي من خلال تصويب الأداء وتعزيز الشفافيّة.

استطاعت بعض المصارف تحقيق خطوات إيجابية في إعادة تكوين جزء كبير من سيولتها الخارجية. وهو ما يؤكّد إمكانية إعادة توجيه القطاع لخدمة الاقتصاد الوطني بشكل مسؤول.

إلى جانب ذلك، تُعدّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإقرار قوانين مثل “الكابيتال كونترول”، وتنظيم السحوبات بشكل عادل، خطوات أساسية لتحقيق استقرار نسبي. لكنّ الإصلاح لا يتوقّف عند حدود القطاع المصرفي، فتعزيز الأجور وتشجيع الاستثمارات وضمان استقلالية مصرف لبنان والقضاء تعدّ جميعها عوامل جوهرية لدفع عجلة الإصلاح الشامل. لا تهدف هذه الإجراءات فقط إلى استعادة الثقة، بل وبناء نظام اقتصادي أكثر عدالة واستدامة.

لن يتحقّق الإصلاح إلا بإرادة سياسية واعية ومسار عمليّ يضع مصلحة المواطنين في صلب الأولويّات

ضرورات الإصلاح: الإرادة السّياسيّة أوّلاً

لن يتحقّق الإصلاح إلا بإرادة سياسية واعية ومسار عمليّ يضع مصلحة المواطنين في صلب الأولويّات. تمثّل هذه النقاط الإصلاحية حجر الزاوية في بناء اقتصاد وطنيّ مستقرّ يلبّي طموحات الأجيال الحالية والمستقبلية:

  1. إصلاح القطاع المصرفيّ: إذا كان إصلاح القطاع المصرفي مستحيلاً اليوم، فلنبدأ مسيرة إعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي من خلال تصويب الأداء.

هناك عدد من المصارف استطاعت إعادة تكوين جزء كبير من سيولتها الخارجية، وعليها العودة إلى خدمة الاقتصاد الوطني. وهذا لا يخفّف من أنّه تجب إعادة هيكلة القطاع المصرفي بما يضمن حماية حقوق المودعين وضمان الشفافية.

  1. إقرار الكابيتال كونترول: تنظيم السحوبات من الحسابات بالعملة الأجنبية، التي تآكلت قيمتها الحقيقية نتيجة التعرّض لمخاطر ائتمانية ناجمة عن سوء تقويم المصارف لحجم وطبيعة مخاطر توظيفاتها، أصبح ضرورة اجتماعية وإنسانية، إلى جانب كونه حاجة قانونية ملحّة. تفاقم الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على معيشة المواطن المودع جعل تشريع قانون يحدّد سقفاً عادلاً للسحوبات ويضمن المساواة بين المودعين المسار الطبيعي والأكثر إنصافاً. وفي حال تعذّر هذا التشريع، يبقى الخيار البديل أن تبادر المصارف، بمنهجية مهنيّة وشفافيّة، إلى السماح بحدّ أدنى من السحوبات لتغطية احتياجات المواطنين الأساسية من استهلاك، وطبابة وتعليم.

إذا كان إصلاح القطاع المصرفي مستحيلاً اليوم، فلنبدأ مسيرة إعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي من خلال تصويب الأداء

في الإجراءات التي تقع خارج الإطار المصرفي المباشر:

  1. ضرورة رفع الحدّ الأدنى للأجور لكي يكون متناسباً مع القدرة الإنتاجية للاقتصاد الوطني ومع تكلفة المعيشة، بما يضمن حياة كريمة للمواطن.
  2. تعزيز الاستثمار في الاقتصاد الوطني من خلال تقديم حوافز للمستثمرين، في الداخل اللبناني ومن يريد الاستثمار من الخارج، وإعادة الثقة بالقطاع المالي.
  3. ضرورة أن يكون مصرف لبنان بعيداً عن تأثير الطبقة السياسية لضمان سياسات نقدية مستقلّة وعقلانية. استقلالية مصرف لبنان، وأضيف، وبالأهمّية ذاتها، استقلالية القضاء اللبناني.

الأزمة النقدية في لبنان هي نتاج تداخل معقّد بين الأزمة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما جعلها أزمة هيكلية تتطلّب إصلاحات جذرية وشاملة. في ظلّ هذا الواقع، يصبح الحديث عن الإصلاح من جهة، وتصويب الأداء من جهة أخرى، مسألة شديدة الأهمّية. لكن يجب التمييز بين هذين المفهومين:

  • الإصلاح يعني معالجة جذور المشكلة من خلال تغييرات هيكلية ومستدامة في النظام الاقتصادي والسياسي. يتطلّب الإصلاح وقتاً طويلاً لأنّه يحتاج إلى توافق سياسي، تخطيط استراتيجي وتنفيذ دقيق.
  • تصويب الأداء هو مجموعة خطوات عاجلة ومؤقّتة تُتّخذ لتخفيف حدّة الأزمة في الوقت الحالي، وتمهيد الطريق للإصلاحات الأوسع.

الأزمة النقدية في لبنان هي نتاج تداخل معقّد بين الأزمة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما جعلها أزمة هيكلية تتطلّب إصلاحات جذرية وشاملة

السّياسيّون هم المشكلة الرّئيسيّة

الطبقة السياسية في لبنان هي حجر العثرة الأساسي أمام تطبيق أيّ من الإصلاحات أو حتى تصويب الأداء. هناك رفض متعمّد لإقرار تشريعات أساسية مثل قانون الكابيتال كونترول. وهذا ما يترك القطاع المصرفي في حالة فوضى ويسمح بتعميق الأزمة النقدية. بالإضافة إلى ذلك، تتسبّب الانقسامات السياسية في تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فعّالة.

غياب القيادة القادرة على اتّخاذ قرارات جريئة يُضعف فرص الإصلاح، ويترك تصويب الأداء بيد مؤسّسات غير مؤهّلة أو تابعة لنفوذ الطبقة الحاكمة.

في الآونة الأخيرة، تعرّض لبنان لحرب جديدة شنّتها إسرائيل، فازداد تعقيد المشهد الاقتصادي والاجتماعي. خلّفت هذه الحرب دماراً كبيراً وأثّرت بشكل مباشر على حياة المواطنين ومؤسّسات الدولة. مع انتهاء الحرب، سيكون لبنان بحاجة ماسّة إلى إعادة الإعمار، وهو تحدٍّ لا يمكن مواجهته إلّا من خلال نظام مصرفي فاعل ومستقرّ. بات تصويب أداء المصارف ضرورة حتمية لمواكبة جهود إعادة الإعمار من خلال توفير التمويل اللازم وضمان توزيع عادل وشفّاف للموارد.

إلى جانب ذلك، أصبح مسألةً ملحّةً خروجُ لبنان من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force – FATF). يعمّق البقاء ضمن هذه القائمة عزلة لبنان المالية ويعرقل جهود إعادة البناء والنهوض الاقتصادي. يتطلّب الخروج من هذه القائمة التزاماً حقيقياً من جميع مكوّنات المجتمع اللبناني، بما في ذلك السلطات الرسمية، المصارف، القطاع الخاص والمجتمع المدني، لتطبيق معايير الشفافية المالية ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

في الآونة الأخيرة، تعرّض لبنان لحرب جديدة شنّتها إسرائيل، فازداد تعقيد المشهد الاقتصادي والاجتماعي. خلّفت هذه الحرب دماراً كبيراً وأثّرت بشكل مباشر على حياة المواطنين ومؤسّسات الدولة

يعيش لبنان أزمة متعدّدة الأوجه تتطلّب استجابة شاملة تجمع بين الإصلاح وتصويب الأداء. الإصلاح ضروري لمعالجة جذور الأزمة وضمان استدامة التعافي الاقتصادي، لكنّه يحتاج إلى وقت وظروف سياسية ملائمة. في المقابل، تصويب الأداء يوفّر حلولاً عاجلة لتخفيف معاناة المواطنين، وتهيئة البيئة المناسبة للإصلاحات المستقبلية. من دون هذا التوازن، سيستمرّ لبنان في دوّامة الفوضى والانهيار، مع زيادة معاناة المواطنين. لذلك المطلوب اليوم هو إرادة سياسية حقيقية تضع المصلحة الوطنية فوق المصالح الشخصية، وتعمل على بناء دولة مؤسّسات قادرة على مواجهة الأزمات، دعم جهود إعادة الإعمار، وإعادة ثقة اللبنانيين بمؤسّساتهم. كما يتطلّب الأمر تعاوناً كاملاً بين جميع مكوّنات المجتمع اللبناني لبناء مسار للخروج من الأزمة الراهنة، بما يعيد للبنان دور الدولة القادرة على تحقيق الاستقرار والازدهار لشعبها.

إقرأ أيضاً: لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

* باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.

مواضيع ذات صلة

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…