يقال إنّ خوض الحرب هو لتحقيق أهداف سياسية من خلال القوّة. لكن في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية كان النصر دائماً مفهوماً هشّاً ومتعدّد الأوجه. لم يتمّ تعريفه أبداً بأيّ مكاسب إقليمية أو عسكرية وحدها، بل باستدامة القضيّة وبقاء الأنظمة السياسية. في هذا السياق، لم تكن الهزيمة خياراً أبداً، وهي سردية لم يكن أيّ طرف على استعداد لقبولها. هذه الحقيقة جعلت الصراع يدور حول البقاء والصمود بقدر ما كان يدور حول تحقيق نصر واضح منجز… فما هو تعريف النصر في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان؟
في العقود السابقة، كانت الحروب العربية الإسرائيلية متكافئة نوعاً ما لأنّها كانت تقع بين جيوش دول تقليدية. غير أنّ هذه الديناميكية بدأت في التحوّل بعد اتّفاق فكّ الارتباط السوري الإسرائيلي في أيار 1974 واتفاق كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية في أيلول 1978. كان هذان الاتّفاقان بمنزلة تراجع للحروب الواسعة النطاق التي تقودها الدول وصعود لصراعات غير متكافئة تتّسم بمشاركة جهات فاعلة من غير الدول مثل منظّمة التحرير الفلسطينية، وبعدها “الحزب”، ولاحقاً حماس.
أدّى هذا التحوّل إلى تغيير عميق في طبيعة الصراع وتداعياته على السياسة الإقليمية. ففي لبنان تقلّص دور الدولة اللبنانية ومؤسّساتها وسلطتها بشكل كبير أثناء الغزو الإسرائيلي عام 1982، وحرب عام 2006، كما خلال الصراع الأخير. تحوّل تركيز الحكومة اللبنانية بشكل أساسي إلى جهود الإغاثة في المقام الأوّل، والاستجابة لأزمة النزوح وتوزيع المساعدات، في حين انتقلت القرارات المتعلّقة بالحرب ووقف إطلاق النار والسلام فعليّاً إلى “الحزب”، وبالتالي إلى إيران.
الوزراء والنوّاب آخر من يعلم
من الأمثلة الواضحة على ذلك معاناة الحكومة لإكمال النصاب القانوني لاجتماعها في 26 تشرين الثاني، يوم إعلان وقف إطلاق النار، بسبب غياب العديد من الوزراء، بل وأعرب العديد من الوزراء والنوّاب في وقت لاحق عن شعورهم بالخيبة والإحباط، مشيرين إلى أنّه لم يتمّ إبلاغهم بمحتوى اتّفاق وقف إطلاق النار مسبقاً.
من الأمثلة الأخرى الإعلان عن حالات الطوارئ أثناء الأزمات بطريقة غير منطقية. فأثناء جائحة كوفيد-19 على سبيل المثال، أعلنت الحكومة اللبنانية حالة الطوارئ للحدّ من انتشار الفيروس، وحشدت باتجاه تعبئة الموارد الوطنية وإنفاذ التدابير لحماية الصحّة العامّة. لكنّها لم تعلن حالة طوارئ مماثلة خلال الحرب الأخيرة على الرغم من الخسائر الكبيرة في الأرواح، وتشريد المدنيين، والدمار الواسع النطاق.
البقاء… انتصار
أعاد هذا التحوّل في طبيعة الحرب أيضاً تعريف معايير تحديد الرابحين والخاسرين فيها. ففي الحروب غير المتكافئة، لا تُقاس النتائج بمقاييس تقليدية مثل الاستيلاء على الأراضي أو الهيمنة العسكرية. بدلاً من ذلك، يتمّ تعريف النصر من خلال تحقيق الأهداف الاستراتيجية، والحفاظ على الشرعية، وضمان البقاء العسكري والسياسي على المدى البعيد، حيث يمكن للطرف الأضعف أن يدّعي النصر لبقائه على قيد الحياة ومواصلة عمليّاته وحسب. في حين يخاطر الخصم الأقوى بأن يُنظَر إليه على أنّه خاسر إذا فشل في تحقيق نتائج دقيقة ودائمة.
وما يزيد من هذا التعقيد البعد الديني لهذه الصراعات، وخاصة في لبنان وغزة. فبالنسبة لجماعات مثل “الحزب”، لا يتمّ تأطير النصر من الناحيتين السياسية أو العسكرية فحسب، بل وباعتباره إنجازاً إلهياً، الأمر الذي يجعل مفهوم النصر شخصياً جدّاً ومضلّلاً في كثير من الأحيان.
من يدرس الحروب الإسرائيلية في لبنان، يجد أنّ حرب تموز 2006 استمرّت لمدّة 34 يوماً، بينما استمرت حرب نيسان 1996، المعروفة باسم عملية “عناقيد الغضب”، لمدّة 16 يوماً فقط. غير أنّ المدّة الدقيقة للحرب الأخيرة لا تزال غير واضحة. وهذا الغموض لا ينشأ من هشاشة وقف إطلاق النار وارتفاع خطر استئناف الأعمال العدائية فحسب، بل ومن الالتباس المحيط بالإبلاغ عن نقطة انطلاق الحرب. فإذا اعتبرنا أنّ نقطة البداية هي 8 تشرين الأول 2023، اليوم الذي قرّر فيه “الحزب” من جانب واحد تفعيل الجبهة الجنوبية إسناداً لعملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حماس، فإنّ الحرب تكون استمرّت 415 يوماً. لكن بدلاً من ذلك، إذا اعتبرنا أنّ نقطة البداية هي 23 أيلول 2024، عندما شنّت إسرائيل سلسلة من الغارات الجوّية في إطار عملية “سهام الشمال”، تكون الحرب قد استمرّت 64 يوماً. ومن الجدير ذكره أنّ الضربات التي بدأت في 23 أيلول 2024 أسفرت وحدها عن مقتل 492 شخصاً، بينهم 35 طفلاً، وإصابة أكثر من 1,600 شخص. وهو ما يجعله اليوم الأكثر دموية في لبنان منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامَي 1975 و1990.
20,500 قتيل وجريح… و8.5 مليارات $
يقال إنّ “الموتى وحدهم من شهدوا نهاية الحرب”.
وفقاً لتقارير نشرتها وزارة الصحّة العامّة، لقي 3,961 شخصاً مصرعهم، وأصيب 16,520 شخصاً، ونزح أكثر من مليون شخص بحلول يوم وقف إطلاق النار. وإذا تمّ قياس تكلفة الصراع من خلال أنقاض وردم المدن والمجتمعات والأرواح البشرية، فإنّ الخسائر والأضرار المقدّرة تصل إلى 8.5 مليارات دولار، وهو ما يمثّل ما يقرب من 50% من الناتج المحلّي الإجمالي للبنان، وفقاً لتقرير البنك الدولي لتقويم الأضرار والخسائر المؤقّتة في لبنان الذي نُشر في منتصف تشرين الثاني. بينما لم تتجاوز الخسائر والأضرار الناجمة عن حرب تموز 2006 نسبة 10% من الناتج المحلّي الإجمالي.
تقدّر الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأخيرة بنحو 5.1 مليارات دولار، بينما تبلغ الأضرار التي لحقت بالهياكل المادّية نحو 3.4 مليارات دولار، مع كون السكن هو القطاع الأكثر تضرّراً. فقد دُمّرت ما يقرب من 100 ألف وحدة سكنية جزئيّاً أو كليّاً. وهو ما أثّر بشكل مباشر على حوالي 500 ألف فرد. وتشير التقديرات إلى أنّ 166 ألف شخص فقدوا وظائفهم، الأمر الذي أدّى إلى خسارة 168 مليون دولار من الأرباح المتوقّعة.
وفقاً للتقرير نفسه، كان قطاع التجارة الأكثر تضرّراً أيضاً، حيث بلغت خسائره 1.7 مليار دولار و178 مليون دولار من الأضرار. وخسر قطاع الزراعة 1.1 مليار دولار، مع أضرار قدرها 124 مليون دولار. في حين تكبّد قطاع السياحة خسائر بلغت 1.1 مليار دولار وأضراراً بلغت 18 مليون دولار.
لا يوجد مال للإعمار حتّى الآن
في أعقاب حرب عام 2006، سارعت دول الخليج العربي وشركاء لبنان الدوليون إلى دعم إعادة بناء المناطق والبنية التحتية المدمّرة. وتلقّى لبنان ما يقرب من 3.6 مليارات دولار من المساعدات، بما في ذلك 940 مليون دولار تعهّد بها مؤتمر استوكهولم في 31 آب 2006. وخلال ذلك الصراع، قدّمت دول الخليج 1.1 مليار دولار في شكل منح، بما في ذلك 500 مليون دولار من المملكة العربية السعودية و300 مليون دولار من كلّ من الكويت وقطر.
بالإضافة إلى ذلك، أودعت المملكة العربية السعودية مليار دولار في البنك المركزي اللبناني، وساهمت الكويت بمبلغ 500 مليون دولار لتعزيز الاحتياطات الأجنبية. كما اتّبعت دول الخليج نصيحة رئيس الوزراء آنذاك فؤاد السنيورة، فتبنّت إعادة بناء بعض القرى، فأعادت قطر بناء الخيام وبنت جبيل، وتعهّدت الإمارات العربية المتحدة ببناء مرجعيون وبلدات العرقوب.
لكن حتى اليوم، لم تقدّم الحكومة خطّة للتعافي المبكر وإعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة. وقد جمع مؤتمر باريس في تشرين الأول 2024 ما يقرب من 800 مليون دولار للمساعدات الإنسانية و200 مليون دولار إضافية لدعم الجيش اللبناني، حتى مع وصول التكلفة الشهرية للاحتياجات الأساسية للنازحين إلى 250 مليون دولار.
في عام 2004، مُنح رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري ميدالية ابن سينا الذهبية من اليونسكو لجهوده في إعادة بناء لبنان بعد الحرب الأهلية. وهي اللحظة التي تبدو الآن وكأنّها ذكرى بعيدة. اليوم، تُرك المتضرّرون من الحرب لمصيرهم، دون خطط واضحة لإعادة بناء منازلهم أو دعم تعافي القطاع الخاصّ وانتعاشه، وهو الركيزة الأخيرة الدائمة للاقتصاد اللبناني الهشّ.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا
- مصدر الإحصاءات: تقرير البنك الدولي المؤقّت عن تقويم الأضرار والخسائر في لبنان – 14 تشرين الثاني 2024.
* باحث وأكاديمي