الجولانيّ: من “الموصليّ” الرّاديكاليّ إلى “الشّرع” البراغماتيّ

مدة القراءة 9 د

خطفَ الأنظار زعيم “هيئة تحرير الشّام” (“جبهة النّصرة” سابقاً) أبو محمّد الجولاني. منذ انطلاق العمليّة العسكريّة في حلب وإدلب وحماة وصولاً إلى حمص. تصدّرَ اسم الجولانيّ مُحرّكات البحث في الأيّام الأخيرة. فهوَ بطبيعته رجلٌ غامض يحيطُ نفسه بكثيرٍ من السّريّة نظراً لطبيعة عمله الأمنيّة حينَ كانَ قياديّاً في تنظيم القاعدة في العِراق بعد الغزو الأميركيّ لبلاد الرّافديْن. فمن هو أبو مُحمّد الجولانيّ؟

تحتَ جناح الظّلام في ليلةٍ من ليالي شهرِ آب من عام 2011، تدثّرَت مجموعة من الرّجال في صحراء البادية السّوريّة بعدما حلقوا لحاهم الطّويلة حاملين مُسدّسات وقنابلَ يدويّة ومُزنّرين بأحزمةٍ ناسفةٍ تحتَ ملابسهم. طريقُ العبور من العِراق إلى سوريا والعكس هي طريقٌ لا يسلكها إلّا من أثقلَتهم أحلامهم.

كانَت مهمّة هذه المجموعة التي يقودها “أميرٌ” شابٌّ غامِضٌ يُدعى “أوس الموصليّ” هي إيجادُ موطِئ قدمٍ في سوريا لتنظيم “الدّولة الإسلاميّة في العِراق”، تمهيداً لتحقيق حُلْمِ إمامٍ عِراقيّ مغمورٍ هو إبراهيم عوّاد السّامرّائيّ أو “أبو بكرٍ البغداديّ” بأن يكونَ “خليفةً للمُسلمين”. رسَمَ الخطّة والرّحلةَ قياديٌّ بعثيّ سابقٌ يُدعى “حجّي بكر”، وهو الذّراع اليُمنى للبغداديّ. وقد قادَ حملات لتصفية خصوم “خليفته” أو من قد يقف في وجه حُلمه. واختارَ “والي نينوى أوس الموصليّ” ليكونَ قائد الحملةِ في سوريا.

من حيثُ المنطق تُعتبرُ درعا أقرب إلى الواقع. إذ إنّ عائلة الشّرع تنحدُر منها. كما أنّ كنية الجولانيّ تدلّ على أنّ الرّجل منحدرٌ من الجنوب السّوريّ

لكنّ البغداديّ وحجّي بكر لم يتوقّعا أنّ هذه الرّحلة ستكونُ بداية نهاية المسيرة المُشتركة مع “أوس الموصلي”. فصارَ كُلّ من البغداديّ والموصليّ أميرَ الحربِ والمُقرّر، كلٌّ لمصير بلاده. فأعلنَ البغداديّ نفسه “أميراً للمؤمنين وخليفةً للمُسلمين” وحوّلَ تنظيمَه إلى ما يُعرف بـ”الدّولة الإسلاميّة” في العراق. أمّا الموصليّ فصارَ الشّيخ الفاتح أبا محمّد الجولانيّ أمير “جبهة نُصرة أهل الشّام” أو ما يُعرَف اختصاراً بـ”جبهة النّصرة”.

خلع العمامة… وارتدى القميص

كانَ مقطعَ الفيديُو الذي انتشرَ قبل يوميْن لزعيم “هيئة تحرير الشّام” أبي مُحمّدٍ الجولانيّ وهو يخرجُ من قلعةِ حلبَ التّاريخيّة مُحاطاً بعناصِرَ مُلثّمين علامةً فارقةً في تاريخ الرّجل.

خلَعَ الجولانيّ عباءته وعِمامته واستبدل بهما قميصاً وبنطالاً. وقبلهما كانَ قد أماطَ اللثَام الذي كانَ يُغطّي به وجهه مع بداية عمل “النّصرة” في سوريا. كما أنّ طُولَ لحيتِه لم يكُن كما السّابق. حتّى إنّه خلَعَ لقبه “الجهاديّ” وأعلنَ اسمهُ الحقيقيّ: القائد أحمَد الشّرع.

يُحاوِلُ الشّرع أن يُصبِحَ رمزاً للانفصالِ عن الأجندات الجهاديّة العابرة للحدود، وأن يُثبّتَ نفسه لاعباً سياسيّاً وطنيّاً مدنيّاً على السّاحة السّوريّة. لكنّ كُلّ التحوّلات التي مرّ بها الجولاني من الانفصال عن “داعش” و”القاعدة” بعدها لم تُفلح حتّى السّاعة في إزالة اسمهِ عن قوائم الإرهابيين المطلوبين لدى الولايات المُتّحدة بجائزة تصلُ إلى 10 ملايين دولار.

تجربةُ الجولانيّ في مسجد الشّافعي لا تُشبه أيّ من تجاربِ المشيخة التقليديّة في دِمشق

ليسَ من السّهل العثور على تفاصيل حياة الجولانيّ. لكنّ ملامِحَهُ تُظهِرُ رجلاً في مطلع الأربعينيّات من العُمر. وهذا ما تتضارَب الأنباء حوله أيضاً. إذ تأخذكَ مُحرّكات البحثِ إلى إجابةٍ غير مُؤكّدة عن أنّ أحمد حسين الشّرع من موالِيد عام 1982 أو 1981. كما أنّ مكان ولادته محلّ خِلافٍ أيضاً. بعضُ المصادِر تقول إنّه وُلِدَ في العاصِمة السّعوديّة الرّياض. ومصادر أخرى تقول إنّه وُلِدَ في مدينة إدلب السّوريّة وربّما في دير الزّور أو منطقة درعا جنوب سوريا.

من حيثُ المنطق تُعتبرُ درعا أقرب إلى الواقع. إذ إنّ عائلة الشّرع تنحدُر منها. كما أنّ كنية الجولانيّ تدلّ على أنّ الرّجل منحدرٌ من الجنوب السّوريّ.

“الحكيم”… يترك دراسة الطّبّ

نشأَ الشرع في حيّ المزّة في العاصمة السّوريّة. داوَم منذ صغره على ارتيادِ مسجد الشّافعيّ في الحيّ الدّمشقيّ الأرستقراطيّ. وهو المسجد نفسه الذي كانَ يداوم رئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل على حضور صلاة الجُمعة فيه قبل أن يخرجَ من سوريا بعد الثّورة السّوريّة.

تجربةُ الجولانيّ في مسجد الشّافعي لا تُشبه أيّ من تجاربِ المشيخة التقليديّة في دِمشق. إذ انتهى به الحال ضمنَ قوافل المُغادرين عام 2003 لمُواجهة الغزوّ الأميركيّ للعراق. يومذاك تركَ الجولانيّ دراستهُ الجامعيّة في مجالِ الطّبّ ليَلتحِقَ بصفوف تنظيم القاعدة الذي كانَ يقودُه أبو مصعب الزّرقاويّ.

ليسَ من السّهل العثور على تفاصيل حياة الجولانيّ. لكنّ ملامِحَهُ تُظهِرُ رجلاً في مطلع الأربعينيّات من العُمر

تدرّجَ الجولانيّ في صفوف “جماعة التوحيد والجهاد” التي أصبحَت فيما بعد “تنظيم قاعدة الجهاد في بِلاد الرّافديْن” حتّى باتَ مُقرّباً من الزّرقاويّ. وبعدَ مقتل الزّرقاويّ والمُلاحقات الأميركيّة لقياديّي التنظيم، انتهى المطاف بالجولانيّ مُعتقلاً في “سجن بوكا” الذي كان مُعتقلاً لآلاف “المتشدّدين المشتبه بهم”.

دخل أحمَد الشّرع السّجن الأميركيّ وخرجَ منه عام 2008 تحت اسم “أوس الموصلي”. لم يكُن أيٌّ من مرافقيه أو حتّى سجّانيه يعرفُ هويّته الشخصية أو أنّه سوريّ الجنسيّة.

سيرة التّحوّل إلى شبح

بعد عودتهِ إلى سوريا في صيف 2011، كنّى نفسه بـ”أبي عبد الله”، قبل أن يُعلن ولادة “جبهة النصرة” وكنيته الجديدة “الفاتح أبا محمّد الجولانيّ”.

بعد وِلادة “النّصرة” تحوّل الجولانيّ إلى شبحٍ بكلّ ما للكلمة من معنى. لم يُفصح عن هويّته ولم يكشف عن وجهه أمام القادة الميدانيين أو المُقاتلين المُلتحقين بـ”جبهة النّصرة”. حتّى في اجتماعات القيادة العُليا، كانَ الجولانيّ يحرصُ على تغطيةِ وجههِ والمُشاركة بمداخلات قصيرة ومقتضبة. وابتعدَ ما أمكَنَ عن الاستعراض وكثرة الحديث. حتّى إنّه كانَ يحتاط في لقاءاته مع أكبر قياديّي تنظيم القاعدة في سوريا مثل أبي خالد السّوريّ رفيق دربِ أسامة بن لادن الذي أرسله أيمن الظّواهريّ إلى سوريا.

تدرّجَ الجولانيّ في صفوف “جماعة التوحيد والجهاد” التي أصبحَت فيما بعد “تنظيم قاعدة الجهاد في بِلاد الرّافديْن” حتّى باتَ مُقرّباً من الزّرقاويّ

كوَّنَ كُلّ ذلكَ ملامِحَ شخصيّة غامضة واستراتيجيّة جمعت بين الرّاديكاليّة والبراغماتيّة. كانَ واضحاً أنّ الجولانيّ استفادَ من تجربته العراقيّة، وأنّه لا بُدّ من مراعاة الفوارق بين العراق وسوريا. فالعشائر العراقيّة أقوى وأوسع امتداداً من مثيلاتها في سوريا. والتنظيمات الجهاديّة في العراق وُلِدَت لمُقارعة “الاحتلال الأميركيّ”. أمّا في سوريا فيتطلّب الأمر “جهاداً لنصرة ثورة شعبيّة”. كما أنّ الخصومَ الشّيعة في العِراق هم أهل دعوةٍ، على عكسِ الخصوم العلويّين في سوريا الذين هم أقليّة بلا دعوة. هذه الفروقات أعطته صلاحيّات موسّعة من البغداديّ الذي كان يقود “القاعدة” في العراق وسوريا.

أسباب الخلاف مع البغداديّ

وقعَ الخلاف بين “الجولانيّ” و”البغدادي” بعد امتناعِ الأوّل عن بيعة الأخير بعدما نصّبَ نفسه “خليفةً على المُسلمين” في خطبته الشّهيرة من على منبر مسجد الموصل، فانقطَع التّواصل بينهما، وصارَ تنظيم “الدّولة الإسلاميّة” (داعش) ينظرُ للجولانيّ و”النّصرة” على أنّهم خارجون عن “طاعة الخليفة”، وصارَ الجولانيّ و”النّصرة” يصفون داعش بـ”الخوارِج”.

كانَت خلافة البغداديّ الشّعرة التي قصمت ظهر البعير في العلاقةِ بين الرّجليْن. وهُنا كانت المحطّة الأولى للجولانيّ في رحلة الانسلاخِ عن “داعش” والبقاء تحت جناح “القاعدة” الذي سينفصل عنه لاحقاً بعد اغتيال قياداته الأساسيّين في سوريا أو ما كان يُعرف بـ”مجموعة خراسان”.

تعامل الجولاني ببراغماتيّة أساسها مراعاة الواقع السّوريّ. فعدّلَ من طريقة عمل “النّصرة” وصارَ أقلّ اعتماداً على المُقاتلين الأجانب. ثمّ عملَ على تصفية القياديّين العراقيين والمصريين لمصلحة القيادات السّوريّة في التنظيم. وبعدها عدّلَ اسم الجبهة لتُصبحَ عام 2015 “جبهة فتح الشّام” مُعلناً رسميّاً أنّها لا تنتمي إلى أيّ “مؤسّسة خارجيّة”، أي الانفصال الكُلّيّ عن “القاعدة”.

حرصَ الجولانيّ في الأيّام الأخيرة على طمأنة الأقليّات في سوريا. وهي الفئة التي يعتمدُ عليها النّظام السّوريّ لتمكين سلطته

لاحقاً غيّر الجولاني الاسمَ مُجدّداً ليُصبحَ “هيئة تحرير الشّام”، وهي الصّورة التي يقودُ فيها التنظيم اليوم في عمليّات حلب وإدلب وحماة وحمص. وقد كانَ لافتاً إعلانه أنّه ينوي تسليم المناطق المُحرّرة لإدارةٍ مدنيّة، وأنّه سيحلّ “هيئة تحرير الشّام”.

طمأنة الأقلّيّات… والغرب

حرصَ الجولانيّ في الأيّام الأخيرة على طمأنة الأقليّات في سوريا. وهي الفئة التي يعتمدُ عليها النّظام السّوريّ لتمكين سلطته. فبعد سقوط حلب وريفها وجّه بعدمِ التّعرّض للمسيحيين في المدينة أو للشّيعة في بلدتَيْ نبّل والزّهراء في الرّيف الشّماليّ.

كما أنّه بعد سقوط حماة، عقدَ صفقة مع أهالي ووجهاء مدينة “السّلميّة” أكبر مُدن المحافظة بعد حماة، التي تُعتبرُ أهمّ مُدن “الشّيعة الإسماعيليّة”، ليسَ فقط في سوريا بل في العالم. فكانَ دخول المُقاتلين سلساً لا يُشبه أيّاً من مراحلِ علاقة التنظيمات الجهاديّة مع الأقليّات في سوريا أو العِراق.

إقرأ أيضاً: الجولاني يتوجّه لمحاصرة دمشق؟؟

هكذا باتَ الجولاني الرّاديكاليّ أحمَد الشّرع البراغماتيّ إلى أبعد الحدود. حتّى إنّ أحد قيادات المُعارضة السّوريّة قالَ في طُرفةٍ: إن أكملَ الجولانيّ في هذا الخطّ، فقد نشهدُ افتتاحَ أوّل “كازينو” في حلب، أو أوّل معملٍ لـ”العرق البلديّ في إدلب”.

لمتابعة الكاتب على X:

@IbrahimRihan2

مواضيع ذات صلة

كارل عيراني: فارس الإصلاح القضائي..

 مرّة جديدة يتميّز بها لبنان. هذه المرّة، فرادته كانت على نزاهة كارل عيراني. وهو قاضٍ مُقرّر في مجلس الشورى. وهي المرّة الأولى التي تُكرّم فيها…

لمحة سريعة عن “مواقف” أحمد الشّرع

دمشق   أكثر من شخصية يتشكّل منها أحمد الشرع. هو أبو محمد الجولاني مؤسّس جبهة النصرة. وهو “موحّد الفصائل العسكرية”، ومطلق إدارة سياسية جديدة في…

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…