لبنانيون كُثر لا يُغفلون قدرات “الحزب”. وعيهم للمرحلة المُقبلة قائم على إدراكهم لسلوك “الحزب” منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. على هذا يتصدّون له لأنّ اليقين السياسي يُدرك أنّه عائد إلى جنوب الليطاني بعدما أقصته إسرائيل. لكن ماذا عن حسابات “الحزب” نفسه؟ هل يمكن له التفكير في المطلب الإسرائيلي مهملاً الكلفة السياسية والاجتماعية والعسكرية التي ستظهر في ما بات يسمّى بـ”اليوم التالي”؟
الجنوب موطن الشّيعة اللّبنانيّين ومركز المقاومة
عبارة “ضبط السلاح”، التي تُنشدها المعارضة اللبنانية في حديثها عن تنفيذ وقف إطلاق النار وتفكيك سلاح “الحزب” وتسليمه إلى الجيش اللبناني، ليست موفّقة ولا هي صالحة لإعادة بناء استقلال لبنان وسيادته. تُثير هذه العبارة المخاوف من تبديد فرصة إقليمية ودولية مُنعقدة لمصلحة البلد وأهله.
في هذه اللحظة السياسية العارمة في لبنان بدأ “الحزب” بالتذاكي عبر القول منذ أيام إنّه قصف موقعاً إسرائيلياً في تلال كفرشوبا باعتبارها منطقة لبنانية مُحتلّة من إسرائيل، وهي غير مشمولة بنص القرار 1701. وهو ما يعني أنّ فعلة “الحزب” لا تُعتبر خرقاً لوقف إطلاق النار. على هذه الشاكلة يلتفّ “الحزب” على قرار وقف إطلاق النار، ويُرمّم مقولة “جيش، شعب، مقاومة” التي كانت ترد في بعض البيانات الوزارية.
لبنانيون كُثر لا يُغفلون قدرات “الحزب”. وعيهم للمرحلة المُقبلة قائم على إدراكهم لسلوك “الحزب” منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي
ليس جنوب الليطاني منطقة جغرافية عسكرية لـ”الحزب” سيطرة سابقة عليها، فهو يمثّل رمزاً تاريخياً واجتماعياً. تقول فكرته الأهليّة إنّه أساس السردية الشيعية في المشرق العربي. من الجنوب، وتحديداً من جبل عامل، انطلق الشيعة لنشر التشيّع في إيران. ومن الجنوب انطلقت مقاومة “الحزب” لمقارعة إسرائيل. ومنه انطلقت سابقاً مقاومات فلسطينية وعروبية وشيوعية وأمليّة (حركة أمل). ومنه امتدّ تأثير “الحزب” في الإقليم العربي، وبالتالي بناء ما اصطلح على تسميته “الهلال الشيعي”.
تمثّل القرى والمدن جنوب الليطاني معاقل شعبية أساسية لـ”الحزب”. إذ يُعتبر الانتماء الجغرافي جزءاً من هويّة الأفراد والمجتمع الذي يشكّل قاعدته الشعبية. المثال الأوضح هو المكانة الوجدانية لمنطقة بنت جبيل التي منها أطلق الأمين العامّ السابق لـ”الحزب” خطاب النصر في عام 2000. لذلك التخلّي عن الجنوب ستكون له تداعيات قد تمسّ بثقة القاعدة الجماهيرية لـ”الحزب” وقدرته على الدفاع عن مصالحها ووجودها.
العقيدة العسكريّة وفكرة المقاومة
لا يغيب عن البال ما تمثّله فكرة المقاومة في جوهر الهويّة السياسية والعسكرية لـ”الحزب”. بنى منذ نشأته سرديّته على الدفاع عن الأراضي اللبنانية في وجه الاحتلال الإسرائيلي. سيعني انسحابه الكامل من جنوب الليطاني عمليّاً تفكيك هذه الهويّة وخلق فجوة كبيرة في سرديّته.
في هذه اللحظة السياسية العارمة في لبنان بدأ “الحزب” بالتذاكي عبر القول منذ أيام إنّه قصف موقعاً إسرائيلياً في تلال كفرشوبا باعتبارها منطقة لبنانية مُحتلّة من إسرائيل
ليس “الحزب” حتى الآن في وارد البحث في مسألة التحوّل إلى حزب سياسي يمارس الحياة السياسية من خلال الوسائل الديمقراطية في لبنان. في الأساس لا يرى نفسه هكذا، ولا الوقائع الموضوعية تسمح له بتحوّل على هذا المستوى. عليه، لا يمكن أن تكون فكرة التخلّي عن جنوب الليطاني في حسابات “اليوم التالي” لـ”الحزب” مهما كان الثمن، لأنّ التمسّك بمنطقة جنوب الليطاني يوازي أصل الوجود لـ”الحزب”.
أقصى ما يمكن أن يقدّمه “الحزب” هو تنازلات تكتيكية، مثل سحب الأسلحة الاستراتيجية كالصواريخ البالستية من جنوب الليطاني، على أن يحافظ على وجوده العسكري، فالأسلحة الاستراتيجية كانت تُطلق من شمال الليطاني وليس من جنوبه. الحرب الأخيرة برهنت ذلك.
جنوب لبنان ساحة صراع بين إيران وإسرائيل
تقول التجارب السابقة إنّ ما يقوم به “الحزب”، عن طريق رئيس مجلس النواب نبيه بري، من رفض أيّ وصاية أجنبية على تطبيق القرارات الدولية في لبنان وحصر الوصاية بيد الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني، يأتي في هذا السياق. وارتكازاً على نفوذ “الحزب” داخل مؤسّسات الدولة، فهو يستطيع في المستقبل أن يؤثّر على حركة الجيش اللبناني في الجنوب الليطاني ومنع المسّ بمصالحه الاستراتيجية، في سيناريو مشابه لما حصل بعد حرب تموز 2006.
حتى بالحسابات الإقليمية، فإن تصوّر أنّ الحزب سيتوجّه إلى حياة سياسية في نظام ديمقراطي برلماني وخارج جنوب الليطاني ليس بالأمر المنطقي. بالنسبة لإيران، يُعتبر وجود “الحزب” في منطقة جنوب النهر هو وجود لها نفسها على “تماسّ”ٍ مع إسرائيل.
تمثّل القرى والمدن الجنوبية معاقل شعبية أساسية لـ”الحزب”. إذ يُعتبر الانتماء الجغرافي جزءاً من هويّة الأفراد والمجتمع الذي يشكّل قاعدته الشعبية
هكذا تمكّنت إيران من خلال “الحزب” تشكيل تهديد دائم لإسرائيل. وهو ما يمثّل جزءاً أساسياً من استراتيجية الردع الإيرانية. وإيران اليوم ليست في موقع الضعيف لدرجة أن تتخلّى عن درّة تاج مشروعها الإقليمي، وواحدة من أهمّ أوراقها التفاوضية على برنامجها النووي مع الولايات المتحدة.
إعادة تشكيل موازين القوى في الشّرق الأوسط
يُشكّل إجبار “الحزب” على التراجع من منطقة جنوب الليطاني حتى الساعة انتصاراً استراتيجياً لإسرائيل سيتيح الانطلاق بعده إلى تشكيل موازين قوى أخرى في المنطقة. سيعني غياب “الحزب” تخفيف التهديد المباشر لإسرائيل، وهو ما قد يفتح المجال أمامها للتوسّع باتّجاه سوريا ومحاولة إعادة رسم خريطة المنطقة عبر مواجهة “رأس الأفعى إيران”، على ما قال رئيس وزراء الدولة العبرية بنيامين نتنياهو.
سيُضعف انسحاب “الحزب” المحور الإيراني بشكل كبير. وسيؤثّر ذلك على علاقات إيران مع حلفائها الإقليميين، خاصة في سوريا واليمن، لأنّها ستبدو أقلّ قدرة على حماية مصالحها في وجه التحالفات الغربية والإسرائيلية. وسيفتح الشهيّة أمام قوى إقليمية طموحة لملء الفراغ الذي ستتركه إيران تدريجياً نتيجة الضغط الأميركي والإسرائيلي، واستغلال اللحظة التاريخية لخسارة إيران رأس حربة محورها الإقليمي.
تمكّنت إيران من خلال “الحزب” تشكيل تهديد دائم لإسرائيل. وهو ما يمثّل جزءاً أساسياً من استراتيجية الردع الإيرانية
ستواجه هذه الاستراتيجية معارضة كبيرة داخلياً، وقد يحتاج “الحزب” إلى تقديم الكثير من التنازلات للقوى الأخرى في سياق تنفيذها. لكنّ أهمّية جنوب الليطاني العسكرية والسوسيولوجية والسياسية تحتّم على “الحزب” تقديم الغالي والنفيس لحفظ وجوده في الجنوب وحفظ سرديّته التاريخية التي على أساسها اكتسب شرعيّته وسبب وجوده.
خطر انزلاق لبنان إلى فوضى داخليّة
لانسحاب “الحزب” من جنوب الليطاني تداعيات على الداخل اللبناني لا تقلّ خطورة عن التداعيات الإقليمية. سيكون الانسحاب عنوان هزيمة لـ”الحزب”، وهزيمة “الحزب” ستعني هزيمة الشيعة في الوعي الجمعي لهذه الجماعة. ولبنان لا يتحمّل هزيمة من هذا المستوى لواحدة من الطوائف المركزية فيه، وهو غير مستعدّ وغير قادر على احتوائها.
ما يقوم به “الحزب” حالياً، وبدأه مع الردّ على تلال كفرشوبا، هو تدبير “اليوم التالي” عنده، ويعني إطلاق صافرة العودة إلى جنوب الليطاني كما فعل بُعيد حرب تموز في عام 2006. وهذا يعني بالتفصيل السياسي أنّه يُقوِّم التحدّيات منذ الآن مع الرئيس الآتي ومع الحكومة المقبلة ويضعهما أمام معادلة تنفيذ الالتزام بالقرار 1701 أو إخضاع لبنان لعقوبات خارجية، وإلّا فالاضطرابات الداخلية ما دامت لديه بيئة مُناصرة وسلاح.
إقرأ أيضاً: إيران في سوريا: العسل المرّ
لمتابعة الكاتب على X: