للتدخّل الروسي في سوريا قصّة رواها فيما بعد الأمين العامّ الراحل للحزب، ومختصرها أنّ قائد فيلق القدس في ذلك الحين، قاسم سليماني، سافر إلى موسكو في 2015، ووضع الخرائط أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشرح له الوضع الميداني ليقنعه بجدوى توفير الغطاء الجوّي.
يوم الأربعاء الماضي، طار الرئيس السوري بشار الأسد في مهمّة مشابهة، وقضى هناك أربعة أيّامٍ سقطت خلالها حلب في يد الفصائل المعارضة، وسقط معها ريف إدلب بكامله والتلال الحاكمة في ريف حماه… ماذا تغيّر بعد 10 سنوات بين رحلة سليماني ورحلة الأسد؟
تردّدت من مصادر الحزب رواية تفيد بأنّ زيارة الأسد المستعجلة لموسكو قبل أيّام أتت بعد “تقاعس” القاعدة الروسية في حميميم عن الاستجابة لطلبات استخدام الطائرات لضرب خطوط إمداد الفصائل المهاجمة في ريف حلب.
لكن يبدو أنّ مهمّة الأسد لم تلاقِ النجاح الذي لاقته مهمّة سليماني في 2015، ولا تُغيّر من ذلك الغارات المحدودة التي تشنّها الطائرات الروسية في أنحاء سيطرة الفصائل.
زيارة الأسد المستعجلة لموسكو قبل أيّام أتت بعد “تقاعس” القاعدة الروسية في حميميم عن الاستجابة لطلبات استخدام الطائرات لضرب خطوط إمداد الفصائل
لغز انسحاب “الحزب” وفصائل إيران
غير أنّ المشكلة لم تكن في الروس وحدهم، بل إنّ تقدّم المعارضة السريع كان نتاجاً مباشراً لانسحاب “الحزب” من مواقعه وعدم جهوزيّة الجيش السوري لملء الفراغ.
ثمّة من يعزو الانسحاب إلى الضربات الإسرائيلية التي تلقّاها “الحزب” من إسرائيل في لبنان وفي العمق السوري. وثمّة من يتكهّن بوجود خطّ أحمر دولي مستجدّ رُسم له بعد اتّفاق وقف إطلاق النار بأنّه ممنوع عليه بعد اليوم لعب أيّ دور خارج الحدود.
غير أنّ اللغز الأكبر يبقى في انسحاب الفصائل الأخرى الموالية لإيران. قد يُعزى الأمر إلى الضربات الإسرائيلية الكبيرة أو إلى شعور بأنّ البيئة الاستخبارية هناك غير آمنة. لكنّ فيديوات الفصائل المعارضة تؤكّد أنّ العديد من مواقع الفصائل الإيرانية تمّ إخلاؤها تحت وقع المباغتة بخلاف مواقع “الحزب” التي تمّ إخلاؤها بانتظام وسَعَةٍ من الوقت، ويؤكّد ذلك مقتل “المستشار العسكري البارز” اللواء كيومرث بورهاشمي في اليوم الأوّل للهجوم على ريف حلب.
يبدو أنّ مهمّة الأسد لم تلاقِ النجاح الذي لاقته مهمّة سليماني في 2015، ولا تُغيّر من ذلك الغارات المحدودة التي تشنّها الطائرات الروسية في أنحاء سيطرة الفصائل
حرب فقدت 3 آباء و3 دول
في هذه الأثناء يحضّر الأسد لهجوم معاكس في حماه، لكنّ حلفه لا يمتلك، حتى الساعة على الأقلّ، مشروعاً عسكرياً للردّ. فسليماني الذي هندس التدخّل وأقنع به بوتين، قُتل، ونصرالله الذي حشد له القادة والمقاتلين من لبنان، قُتل أيضاً، وبوتين الذي اقتنع منشغلٌ بحربه في أوكرانيا.
مع غياب 3 آباء: بوتين ونصرالله وسليماني، لم يعد لمشروع القتال في سوريا آباء مستعدّون للبدء من جديد بعد الأثمان الكبرى الذي بُذِلت فيه. بل إنّ 3 دول تغيّرت أولويّاتها السياسية أيضاً:
- في إيران، غاب الجنرالات عن الصورة، وتحرّك رأس الدبلوماسية عباس عراقتشي في اتّجاه دمشق، وأجرى اتّصالاً بنظيره الروسي سيرغي لافروف، ثمّ طار إلى تركيا لمفاوضة الراعي الإقليمي لفصائل المعارضة. وخرج بعدها ليعلن تأكيد العودة إلى مسار آستانا واتفاقية “خفض التصعيد” التي يرعاها الثلاثي: روسيا وإيران وتركيا. ويكاد لا يخلو تصريح لأيّ مسؤول إيراني من تأكيد هذه الاتفاقية وهذا المسار.
- في لبنان، التزم “الحزب” الصمت. ووردت في مقدّمة نشرة أخبار تلفزيون “المنار”، التابعة له، بعد سقوط حلب، عبارة دقيقة مفادها أنّ “الواقع على الأرض دعم روسي مستمرّ للحكومة والجيش والشعب السوريّين”. فيما غاب عن تدقيقها أيّ ذكر لدعم “الحزب” أو “محور المقاومة”، كما درجت الأدبيات على مدى عقدٍ مضى.
- في العراق، جوّ سياسي مختلف لا يتيح لفصائل “الحشد الشعبي” عبور الحدود بسهولة، حتّى تلك المرتبطة بإيران. ولذلك أتى القرار علنيّاً من حكومة محمد شياع السوداني بإغلاق الحدود.
تركن إيران، كما يركن الأسد، إلى أنّ الفصائل المهاجمة من إدلب، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”، ليس لها أفق سياسي
الرّهان على غياب أفق المعارضة السّياسيّ
تركن إيران، كما يركن الأسد، إلى أنّ الفصائل المهاجمة من إدلب، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”، ليس لها أفق سياسي. بل إنّ صعودها ليس مشكلة لهما فحسب، وإنّما هو “مشكلة” دولية وإقليمية. وفي هذا كثير من الواقعية. فقد فعل أبو محمد الجولاني الكثير لتغيير جلده:
- من تغيير اسم حركته (من “جبهة النصرة” إلى “تحرير الشام”).
- إلى قطع العلاقة مع تنظيم القاعدة.
- وحتى تغيير هندامه وخطابه.
- وتقديم خدمات استخبارية جليلة للأميركيين مكّنتهم من القضاء على عدد من قادة “داعش”.
غير أنّ ذلك كلّه لا يمحو سطراً من سيرته الذاتية كمقاتل في “القاعدة” على مدى ثماني سنوات في العراق. لذلك لا أحد يتصوّر أن يحجز الرجل لنفسه كرسيّاً في الحوار حول مستقبل سوريا السياسي، مهما توسّعت رقعة سيطرته جغرافيّاً.
لدى أنقرة مصلحة في دعم الهجوم الحالي بهدف وضع الأسد وإيران أمام خريطة مختلفة جذريّاً
حتّى تركيا لم تكن علاقتها بالجولاني في السنوات الماضية على ما يرام. غير أنّ لدى أنقرة مصلحة في دعم الهجوم الحالي بهدف وضع الأسد وإيران أمام خريطة مختلفة جذريّاً، تنحسر فيها سيطرتهما عن العاصمة الاقتصادية وثاني أكبر مطار دولي سوري وخمسة مطارات عسكرية وأهمّ خطّين يربطان الشمال السوري بالساحل والوسط.
أمّا ما يعني تركيا بشكل مباشر فهو عملية “فجر الحرّية” التي أطلقها “الجيش الوطني” الموالي لها شرق حلب، والتي أسفرت عن السيطرة على مدينة تل رفعت الاستراتيجية، شرق عفرين. والهدف تقطيع أوصال مناطق السيطرة الكردية، والوصل بين مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” الخاضعة للنفوذ التركي المباشر.
إيران أولويّتها حماية حمص والقصير
قد يعطي تغيير الخرائط فرصة للتواصل بين دول المنطقة على أرضيّة مختلفة للبحث عن مسار جديد لاحتواء الوضع المستجدّ، مع تحسين ملموس لموقع تركيا في التفاوض. غير أنّ الأمر يتوقّف إلى حدّ بعيد على المقاربة الإيرانية للتحدّي.
في الأيّام الماضية، أثمر التواصل الإيراني – التركي عن نتيجة مباشرة هي وقف تقدّم الفصائل في حماه، وتراجعها عن المدينة وعن محردة وبلدات أخرى كانت قد دخلتها بالفعل مع الاكتفاء بالسيطرة على التلال الحاكمة في المنطقة.
ترافق ذلك مع استنفار وحشود في المناطق الموالية للنظام. ويبدو أنّ هذا هو خطّ التماسّ الذي تسعى إيران إلى تثبيته جنوب خان شيخون، لإبقاء التهديد بعيداً عن حمص والقصير اللتين تشكّلان عقدة الوصل بين العاصمة والساحل.
بعد ذلك يكون خيارٌ من اثنين: إمّا أن تكون سوريا ساحة حرب أخرى في المنطقة، وإمّا أن تكون أرضيّة التأسيس لنظام إقليمي جديد.
أثمر التواصل الإيراني – التركي عن نتيجة مباشرة هي وقف تقدّم الفصائل في حماه، وتراجعها عن المدينة وعن محردة وبلدات أخرى كانت قد دخلتها بالفعل
ظريف يرسم رؤية إيران للسّلام
ثمّة تحوّل في لغة الخطاب الإيراني تجاه العالم العربي والمجتمع الدولي عبّر عنه مقال في غاية الأهمّية لنائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف، نشرته مجلة “ذا فورين أفيرز” في 2 كانون الأوّل الجاري، حمل عنوان: “كيف ترى إيران المسار إلى السلام”.
في هذا المقال نقاط وتعابير غير معهودة في القاموس الدبلوماسي الإيراني:
- للمرّة الأولى منذ الثورة الخمينية عام 1979، تقول إيران إنّها “تقبل بأيّ حلٍّ يقبل به الفلسطينيون”. ويقدّم ظريف باسم الحكومة الإيرانية مقترحاً للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني يتمثّل باستفتاء يشارك فيه اليهود والمسلمون والمسيحيون، والفلسطينيون في الشتات، “لتحديد مستقبل قابل للحياة لنظام الحكم”. يشكّل هذا المقترح سابقة من حيث إنّه أوّل إعلان من “إيران الإسلامية” عن استعدادها للقبول بوجود اليهود في أرض فلسطين التاريخية من ضمن حلّ سلمي مستقبلي، وإحالة القضية إلى عمليّة تفاوض يقودها الفلسطينيون، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية إحالة السردية المستخدمة حالياً إلى التقاعد، بكلّ مندرجاتها، من “فيلق القدس” إلى “محور المقاومة”.
- يتحدّث ظريف عن إنهاء الخلافات مع المحيط العربي بروحيّة جديدة، يقرّ فيها بإمكانية التحاور العميق حول جذور المشكلة. بل إنّه يذهب إلى حدّ اقتراح إطار شبيه باتفاقية هلنسكي (1975)، التي وحّدت مفهومَي الأمن السياسي والعسكري للدول الأوروبية، بعد عقود من الصراع والحروب بينها. ويقترح أيضاً إمكانية العودة إلى قرار مجلس الأمن رقم 598 الذي أنهى الحرب العراقية الإيرانية عام 1987، لإرساء إجراءات لتثبيت الأمن في الخليج.
- ينتقد الاتفاقيات الإبراهيمية، ليس من باب الرفض الأيديولوجي للتطبيع، بل من باب أنّها “تضع إيران في مواجهة العرب”. وهو بذلك يطلب بشكل غير مباشر إطاراً أوسع يُشرك بلاده في الحوار لإرساء النظام الإقليمي الجديد.
إقرأ أيضاً: كيف ترى إيران الطريق إلى السلام:منفتحة على المفاوضات حتى مع أميركا
تقول إيران، بلسان ظريف، إنّها مستعدّة لمحاورة الولايات المتحدة في عهد الرئيس المُنتخَب دونالد ترامب للتوصّل إلى اتفاق نووي جديد، وإنّها مستعدّة للذهاب بعيداً في الانخراط مع العرب في نظام اقتصادي وأمنيّ إقليمي جديد. لكنّ السؤال المحوري: بلسان من ينطق ظريف؟ بلسان رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان؟ أم بلسان الدولة العميقة في إيران؟
تشير التجارب مع إيران إلى أنّ ما تنطق به “القشرة الديمقراطية” في مؤسّسات النظام بالإمكان تقديمه في الليل ومحوه في النهار. لذلك الدولة العميقة مطالبة بتقديم إشارات إلى حدود التفويض الذي يقف خلف ما يُسمع ويُقرأ من كلام ظريف.
لمتابعة الكاتب على X: