تطول لائحة الملفّات الخلافية بين دول الخليج وإيران. وتعود جذور بعضها إلى عقود سابقة لنشوء النظام الحالي اعتباراً من 1979، ومن أبرزها حقل الدُّرّة للغاز الذي تعود ملكيّته المشتركة للكويت والسعودية، وتتمسّك طهران بمزاعمها في وجود “حقوق” لها فيه، وصولاً إلى اعتبار “الحرس الثوري” في أيلول الماضي هذا الحقل “أهمّ من لقمة العيش”.
فما هي قصة حقل الدرّة الذي تُطلق عليه إيران تسمية “آرش” بالفارسي؟ وما تسلسلها التاريخي؟ ومتى بدأ الخلاف؟ ولماذا تتمسّك إيران بافتراءاتها التي تدحضها القوانين البحرية الدولية والاتّفاقيات الثنائية بين الكويت والسعودية؟
طفا إلى السطح في السنوات القليلة الماضية الخلاف بشأن حقل الدُرّة، الذي يقع في المنطقة البحرية المتداخلة بمياه الخليج، تحديداً منذ 2019، وهو العام الذي شهد توقيع الكويت والسعودية في 24 كانون الأول منه مذكّرة تفاهم لتطوير واستغلال الحقل تضمّنت تقسيم الإنتاج بالتساوي استناداً إلى خيار “الفصل البحري”، حيث يتمّ فصل حصّة كلّ من الشريكين في البحر، ومن هناك ترسل حصّة السعودية إلى الخفجي، فيما ترسل حصّة الكويت إلى الزور.
بحسب الدراسات، يُقدّر إنتاج الحقل اليومي بحوالي مليار قدم مكعّبة قياسية من الغاز الطبيعي، و84 ألف برميل من المكثّفات، فيما تشير التقديرات إلى احتوائه على 220 مليار متر مكعّب من الغاز (تعادل تقريباً حاجة بلد مثل مصر إلى الغاز (لحوالي 4 أعوام، وتشكّل تقريباً 85 في المئة من صادرات روسيا من الغاز للاتحاد الأوروبي قبل الحرب مع أوكرانيا).
يُعدّ حلّ الخلاف بشأن الحقل، الذي يتمتّع بأهمّية كبرى على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، أوّل ملفّات الاختبار الحقيقي لـ”نوايا” إيران في المرحلة الجديدة من علاقاتها مع دول الخليج، التي بدأت تتحسّن نسبياً منذ نيسان 2023، عندما أبرمت اتفاقاً مع السعودية برعاية الصين أنهى 7 أعوام من القطيعة، وتلته حالة من الإيجابية الحذرة في العلاقات الخليجية – الإيرانية، لكن من دون الوصول إلى تغييرات جوهرية في الملفّات الخلافية، سواء الثنائية أو الإقليمية.
طفا إلى السطح في السنوات القليلة الماضية الخلاف بشأن حقل الدُرّة، الذي يقع في المنطقة البحرية المتداخلة بمياه الخليج، تحديداً منذ 2019
تسلسل زمنيّ
في ما يلي تسلسل زمني لحوالي 6 عقود من الخلافات التي خفتت لسنوات (تجميد تظهير الخلاف)، وظهرت في أخرى:
– 1960-1967: اكتشاف حقل الدرّة في مياه الخليج العربي، عندما منحت الكويت شركة “رويال داتش شل” العالمية امتياز التنقيب، ومنحت طهران شركة النفط الأنغلو – الإيرانية حق امتياز مماثل.
– 2000: اتفاقية بين الكويت والسعودية بشأن المنطقة المحايدة المغمورة في الحدود البحرية.
– 2001: إعلان طهران أنّها ستباشر أعمال التنقيب، وتسريع الكويت والسعودية ترسيم حدودهما البحرية نهائياً، وإبرام اتفاقيات لتطوير الموارد المشتركة.
– 2003: إعلان الكويت رغبتها بعرض الخلاف على هيئة تحكيم دولية في حال فشل المفاوضات الثنائية، لكنّ إيران رفضت التحكيم.
– 2014: اعتماد الكويت نظام خطّ الإغلاق أو الحصر المخصّص للخلجان (المادّة 10 من معاهدة 1982) لإغلاق خليجها، واعتبارها هذا الخط جزءاً من خطّ الأساس الذي يقاس منه عرض بحرها الإقليمي. واعتمدت لبقيّة سواحلها وجزرها خطّ الأساس العاديّ.
– 2015: طرح إيران مشروعين لتطوير الحقل أمام الشركات الأجنبية.
– 2019: توقيع مذكّرة تفاهم بين السعودية والكويت بشأن المنطقة المحايدة، والمنطقة البحرية المغمورة المقسومة بين البلدين، وقد نصّت في البند الـ13 على “الإسراع في تطوير واستغلال حقل الدرّة”.
– 2022: في آذار وقّعت الكويت والسعودية اتفاقية لتطوير الحقل، وفي نيسان أعلنتا موقفهما الرسمي “الموحّد” المستمرّ حتى اليوم من دون تغيير، والمدعوم خليجياً وعربياً، ويتلخّص بأنّ حقل الدُّرّة هو ملكية مشتركة ولهما الحقّ الحصري في استغلاله، وأنّهما مستعدّتان للتفاوض “كطرف واحد” مع إيران بشأن “تعيين الحدّ الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة”.
– 2024: إعلان الكويت بدء التنقيب في الحقل قريباً، وتوقّع تشغيله الكامل في 2029، وردّ إيران بأنّها ستردّ على التنقيب بالتنقيب.
إعلان الكويت بدء التنقيب في الحقل قريباً، وتوقّع تشغيله الكامل في 2029، وردّ إيران بأنّها ستردّ على التنقيب بالتنقيب
المنطق الإيرانيّ الأعوج
يقول خبير نفطي كويتي، ردّاً على السؤال الأساس: “على ماذا تستند إيران في مزاعمها؟”، إنّ “منطق إيران الأعوج مليء بالافتراءات والمزاعم غير الصحيحة، لأنّها تريد ترسيم الحدود وفق الثروات الطبيعية في حين أنّه يتمّ وفق القانون البحري، وتريد أن يكون الترسيم من حقل إلى حقل في حين أنّه يتمّ من جزيرة إلى جزيرة”.
يشير إلى أنّ الجانب الإيراني يطالب بترسيم الحدود مع الكويت (الجرف القاري) خارج قانون البحار، بحيث يتمّ من جزيرة خرج الإيرانية إلى البرّ الكويتي، وهو أمر غير منطقي، في حين تطالب الكويت بأن يكون الترسيم من جزيرة فيلكا (الكويتية) إلى جزيرة خرج (الإيرانية).
يجزم الخبير بأنّ حقوق الكويت ثابتة بالقانون البحري والدولي، وأن لا مجال لأيّ حقوق في حقل الدُّرّة لأيّ دولة غير الكويت والسعودية، مؤكّداً أنّ تحديد الحدود وفقاً للقانون الدولي والبحري يتمّ استناداً إلى ضوابط وليس بشكل عشوائي.
يضرب مثالاً على تلك الضوابط بقوله إنّ الاعتراف بالجزر لا يكون على أساس أيّ جزيرة في البحر، بل يجب أن تكون هذه الجزيرة مستوفية لشروط واضحة ومحدّدة، ومنها قربها من الساحل والخرائط المستخدمة في الإثبات، وهي شروط تنطبق تماماً على جزيرتَي فيلكا وعوهة الكويتيّتين، فهما جزيرتان معتمدتان وفق المحدّدات الدولية وتقعان داخل المياه الإقليمية (12 ميلاً بحرياً)، كما أنّ فيلكا مأهولة ولم تخلُ من السكان.
رفض الاستفراد
مقابل السلبية الإيرانية المترافقة مع استفزازات بين الحين والآخر على شكل تصريحات أو إعلان زيارات لمسؤولين عسكريين بالهليكوبتر للمنطقة البحرية التي يقع فيها الحقل، تتمسّك الكويت والسعودية بحقّهما الخالص والثابت في الحقل، فيما تحاول طهران عبثاً زرع الشقاق بالقول إنّ “الدُّرّة” يقع في الجانب الكويتي من المنطقة المشتركة، وبالتالي يجب أن تكون المفاوضات مع الكويت حصراً.
قال المستشار القانوني للرئيس الإيراني محمد دهقان، في آذار 2024، “يجب حلّ هذه القضية سلميّاً
لكنّ هذا الموقف “لا قيمة له”، وفق الخبير النفطي، لأنّ وقوع الحقل في الجانب الكويتي لا يعني أنّ الكويت يمكنها أن تتفاوض لوحدها مع طرف ثالث، على اعتبار أنّ تلك المنطقة البحرية هي أصلاً مشتركة بينها وبين السعودية، بغضّ النظر عن وجود الثروات في أيّ من الجانبين.
هذا من الناحية التقنية – الاقتصادية، وأمّا سياسيّاً فالموقف واضح وتكرّر عشرات المرّات في بيانات رسمية صادرة عن البلدين وتصريحات من كبار المسؤولين فيهما بأنّ التفاوض يكون على أساس طرفين: الأوّل هو الكويت والسعودية، والثاني هو إيران.
كما أنّ التفاوض يكون بعد ترسيم الحدود البحرية بين الكويت وإيران، لأنّ الحديث عن أيّ حقوق في الحقل قبل الترسيم، هو “جدل عقيم” برأي الخبراء.
خيارات الكويت
في واحد من التصريحات الإيرانية التي تُلخّص الموقف السياسي، قال المستشار القانوني للرئيس الإيراني محمد دهقان، في آذار 2024، “يجب حلّ هذه القضية سلميّاً. الدُّرّة هو حقل غاز ونفط ينتمي جزء منه إلى إيران. ليست لدينا حدود بحرية مع الكويت، لكنّنا اكتشفنا ذلك الحقل وحفرنا بئراً هناك منذ عدّة سنوات، إلا أنّنا لم نستخدمه حتى الآن حتى لا نخلق تحدّياً بيننا وبين الكويت وجيرانها… ما زلنا نعتقد أنّ هذا الحقل مشترك ونبحث عن التكامل، لكن إذا كانت الكويت ستبدأ الاستخراج من الحقل فسنبدأ نحن أيضاً الاستخراج من الحقل”.
في 10 أيلول 2024، قال اللواء عبدالرضا عابد، قائد “مقرّ خاتم الأنبياء”، الذراع الهندسية لـ”الحرس الثوري”، إنّ توسيع الحقل “هو أهمّ من لقمة العيش بالنسبة لنا، ويجب عدم التفريط بحقوقنا في هذا الحقل (…) ويجب أن نعمل بجدّ في هذا السياق”.
في حال أصرّت إيران على رفض التفاوض مع الكويت والسعودية كـ”طرف واحد”، ما هي خيارات الكويت؟
يكمن “سرّ” رفض إيران الذهاب إلى التحكيم أو المحاكم الدولية في كون موقفها ضعيفاً وخسارتها أكيدة، لأنّ قوانينها تتعارض مع قواعد القانون الدولي
يجيب الخبير النفطي أنّ “الكويت أعلنت سابقاً ومستعدّة حتى الآن للّجوء إلى الخيارات الأخرى، مثل التحكيم الدولي أو إحالة الخلاف لمحكمة العدل الدولية أو المحكمة الدولية لقانون البحار”، مؤكّداً أنّها مستعدّة أيضاً لأيّ وسيلة أخرى يتّفق عليها الطرفان نظراً لاطمئنانها لقوّة موقفها، وفق الحقّ والقانون.
من أهمّ المسائل التي تُضعف موقف إيران دولياً أنّها وقّعت على معاهدة جنيف للجرف القارّي لعام 1958 ومعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، لكنّها لم تُصدّق على أيّ منهما. أكثر من ذلك، أصدرت في 1993 قانوناً يتعلّق بتحديد المناطق البحرية في الخليج العربي وخليج عُمان، وكثير من بنوده يتعارض مع معاهدة البحار لعام 1982.
السّرّ والورقة
في المحصّلة، يكمن “سرّ” رفض إيران الذهاب إلى التحكيم أو المحاكم الدولية في كون موقفها ضعيفاً وخسارتها أكيدة، لأنّ قوانينها تتعارض مع قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية وممارسات الدول المستقرّة في مجال التقسيمات البحرية.
كما أنّ تلك القوانين غير منطقية لأنّه لا يمكن لإيران فرض مناطقها البحرية المُحدّدة وفق قانونها الوطني بالقوّة على بقيّة الدول، وإنّما عليها واجب التعاون مع الدول المجاورة من أجل التوصّل معها إلى حلول مرضية.
إقرأ أيضاً: 7 أعمدة في قمّة الكويت الخليجيّة السّابعة
حتى لو لم تقبل إيران بالتحكيم، يُمكن للكويت أن تطلب رأياً استشاريّاً في الملفّ من محكمة العدل الدولية عن طريق الجمعية العامّة للأمم المتحدة، الأمر الذي سيُحرج الموقف الإيراني.
هذه “الورقة الرابحة” (كما تصفها إحدى الدراسات القانونية الكويتية) تبقى بيد الكويت، التي ما زالت تفضّل التريّث، بانتظار جلاء موقف إيران النهائي.